عن توتر العلاقات الأميركية السعودية

24 أكتوبر 2022
+ الخط -

يحمل قرار تحالف "أوبك+"، في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، خفض إنتاج النفط مليونَي برميل يوميًّا، بدايةً من الشهر المقبل (نوفمبر/تشرين الثاني)، دلالاتٍ مهمّة بشأن توقيته، وتداعياته على العلاقات الأميركية السعودية؛ إذ تلوح في الأفق ملامح "توتر" جديد في علاقات الحليفين الممتدة عقودًا. وفي المقابل، يتزايد احتمال حصول "تقارب" أكبر بين بعض الأطراف العربية (تحديدًا السعودية والإمارات وقطر والجزائر ومصر) مع روسيا، مع بروز مساحة أوسع نسبيًّا من "المناورة" أمام القوى الإقليمية (تركيا وإيران)، في ضوء تآكل صورة واشنطن و"مصداقيتها" في إقليم الشرق الأوسط، بسبب تفاقم أزمات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس بايدن، منذ الانسحاب "المرتبك" من أفغانستان صيف 2021، الذي يعكس حالةً من "الانكفاء النسبي"، تُجسّد "التراجعات الهيكلية البنيوية" الأميركية، لا سيما بعد جائحة كورونا. 
وفي إطار تحليل التوتر الراهن في العلاقات السعودية الأميركية، وسياقاته الدولية والإقليمية، وتداعياته على السياسة السعودية، يمكن إبراز خمس ملاحظات؛ أولاها تتعلق بوجود أزماتٍ سابقة في العلاقات، بيد أن الأزمة الراهنة تبدو أكثر تعقيدًا، بسبب تداخل عوامل اقتصادية مع أبعاد جيوبوليتيكة/ عسكرية/ أمنية/ سياسية، على نحوٍ يعكس طبيعة "المرحلة الانتقالية" التي يمرُّ بها النظامان الإقليمي والدولي حاليًّا، والتي تجسّد بوضوح تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، سواء على موازين القوى العالمية، أم هيكل النظام الدولي وترتيب الفاعلين فيه، أم سياسات/ أدوار القوى الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط، التي تشهد تحولاتٍ ملحوظة، بسبب خضوعها لمتغيرات جديدة (مثل: حروب الطاقة، والحروب السيبرانية، والصراعات الجيوبوليتية، وحروب الهويات المثقلة بالسرديات التاريخية المتناقضة، وخطابات الأنانية والكراهية والاستعلاء العنصري).
واستطرادًا في تحليل "الانكفاء الأميركي النسبي"، وافتقاد الإدارات الأميركية المتعاقبة استراتيجية كبرى (Strategy Grand) في إدارة الملفات الدولية والإقليمية الملتهبة، يبدو، بعد قرابة عامين على تولّي إدارة بايدن، فشل سياساتها في ملفيْ النووي الإيراني واليمن. ناهيك عن انشغالها بأولوية التصدّي للصين وروسيا، من دون تحقيق نتائج واضحة أو حاسمة لمصلحة واشنطن ضد هذين الفاعليْن الدولييْن، بعد مرور نحو ثمانية أشهر من الحرب الروسية على أوكرانيا، وإصرار بكّين على الرد على الاستفزازات الأميركية في تايوان وبحر الصين الجنوبي ومناطق الجوار الصيني عمومًا.

محدودية خيارات واشنطن في الضغط على الرياض، على الرغم من ارتفاع نبرة "التهديد والوعيد"

والحاصل أن ثمّة تصاعدًا في وزن العامليْن، الصيني والروسي، في التأثير على العلاقات الأميركية السعودية، وربما نشهد انحسارًا "نسبيًّا" في نفوذ واشنطن خليجيًّا وعربيًّا وإقليميًّا، بما يسمح بـ"تدويل" أمن الخليج (عبر بروز أدوار روسيا والصين والهند في معادلاته)، مع الاعتراف بمكانة واضحة لدوري تركيا وإيران، وربما باكستان، في الخليج العربي. 
وعلى الرغم من توظيف إسرائيل تطبيع الإمارات والبحرين لتعزيز حضورها الخليجي/ الإقليمي، فإن ثمة إرهاصات لتآكل الدور الإسرائيلي قريبًا، لسببين؛ أحدهما اشتداد عضد المقاومة الفلسطينية، وتجدّدها في الضفة الغربية، وإفرازها مجموعات مسلحة ذات طبيعة مختلفة (كتيبة جنين، عرين الأسود)، وبروز أيقونات شبابية تكشف دخول جيل جديد إلى حلبة الصراع (إبراهيم النابلسي، عدي التميمي). والآخر تذبذب/ تآكل قدرة إسرائيل على توظيف تداعيات الأزمة الأوكرانية، وتحولها من ادّعائها "الحياد" في البداية، ومحاولة ممارسة جهود الوساطة بين الطرفين الروسي والأوكراني، مرورًا بـ"الانحياز التدريجي" لكييف، وربما وصولًا إلى تزويدها ببعض الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية، ردًّا على دور إيران في تزويد روسيا بالمسيّرات، وقلق تل أبيب من إمكانية مواجهتها لاحقا، عبر حلفاء طهران في سورية ولبنان وغزّة واليمن، ما يعني تحوّل أوكرانيا ساحةً أخرى للصراع الإيراني الإسرائيلي بالوكالة.
تتعلق الملاحظة الثانية بمحدودية خيارات واشنطن في الضغط على الرياض، على الرغم من ارتفاع نبرة "التهديد والوعيد"، سواء بـ"إعادة تقييم العلاقات" معها، أم شنّ حملة دعائية تركز على السعودية ودورها في قرار تحالف "أوبك+" (22 دولة غيرها)، أم التلويح بوقف تصدير السلاح إلى الرياض، أم الضغط عليها عبر السياسات الأميركية في الملف اليمني، التي بدأتها إدارة بايدن بإلغاء تصنيف الحوثيين "منظمة إرهابية"، ما أفسح المجال لتكثيف ضغوطهم على السعودية والإمارات، وقصف منشآتهما النفطية والمدنية، ثم تنكّر الحوثيين لتجديد الهدنة، واستهدافهم ميناء الضبة في محافظة حضرموت (21/10/2022)، عبر طائرات مسيّرة، ما يعني تحليليا بروز دور عنصر النفط اليمني (في ظل أزمة الطاقة العالمية حاليا) في تعقيدات أزمات اليمن، التي تشكّل موضوعًا محوريًّا في خلافات السعودية مع إدارة بايدن.

السعودية ليست معادية للمصالح الأميركية إجمالًا، لكنها تحرص بعد الأزمة الأوكرانية على توسيع دائرة علاقاتها الدولية والإقليمية

والمرجّح أن تفكير واشنطن في خطواتٍ لمعاقبة السعودية قد يدفع المملكة أكثر في اتجاه موسكو وبكين، لا سيما أن تبرير الدبلوماسية السعودية قرار "أوبك بلس" بأنه "اقتصادي" لا يخلو من "وجاهة". ومعلومٌ بالضرورة أن السعودية الرسمية ليست معادية للمصالح الأميركية إجمالًا، لكنها تحرص بعد الأزمة الأوكرانية على توسيع دائرة علاقاتها الدولية والإقليمية، بما يحقّق مصالحها الاقتصادية والتنموية، خشية عودة أسعار النفط إلى الانخفاض مجددًا، واحتمال تصاعد الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة (النووية والشمسية) وقرب نهاية عصر الوقود الأحفوري. تتعلق الملاحظة الثالثة بطبيعة مستويات عمل السياسة الخارجية السعودية؛ إذ تواجه الرياض تحدّيات في التوفيق بين متطلبات علاقة التحالف مع واشنطن، على الصعيد الدولي، رغم تصاعد الدورين الصيني والروسي من جهة، وتسارع وتيرة المتغيرات الإقليمية الضاغطة على المملكة، بسبب تصاعد نفوذ المشروع الإقليمي الإيراني في العراق واليمن وسورية ولبنان، والمشروع الإقليمي التركي بدرجة أقل، من جهة أخرى، ومتطلبات المشروعات التنموية الداخلية، المتجسّدة في رؤية 2030، والإعلان عن مبادرات اقتصادية وبيئية تستقطب اهتمامًا عالميًّا وإقليميًّا، مثل: أن تكون الرياض من أكبر 10 اقتصادات مدن العالم، ومبادرة "السعودية الخضراء"، و"الشرق الأوسط الأخضر"، وتأسيس مدينة نيوم الصناعية "أوكساغون"، ومشروع "وسط جدّة"، وإطلاق "الاستراتيجية الوطنية للصناعة"، التي تركّز على 12 قطاعًا فرعيا لتنويع الاقتصاد الصناعي، وتوفير 800 فرصة استثمارية بقيمة تريليون ريال (266 مليار دولار)، بغية مضاعفة قيمة الصادرات الصناعية إلى 557 مليار ريال (148.5 مليار دولار).
وثمة أمران مهمان في هذا السياق؛ أحدهما أن الرياض تسعى إلى استثمار ارتفاع أسعار النفط بعد الأزمة الأوكرانية، في تسريع تنفيذ رؤية 2030 ومشروع مدينة نيوم. والآخر أن هذه الجدلية بين الدولي والإقليمي والمحلي في السياسة الخارجية السعودية تدفع المملكة إلى إعادة بلورة "مصلحتها الوطنية"، تجاوبًا مع متطلباتها التنموية والاقتصادية، لا سيما في مرحلة تحوّل وغموض في النظامين الدولي والإقليمي، ما يعني أن للرياض مصلحة أكيدة في استثمار حالة التهدئة والتقاربات الإقليمية على مدار عامي 2021 و2022، للبحث في سبل الخروج من حرب اليمن، ناهيك عن تعزيز علاقاتها مع قطر، والتقارب مع سلطنة عُمان، مرورًا بإعادة رسم العلاقات السعودية مع مصر والإمارات وباكستان، فضلًا عن تحريك ملف العلاقات مع تركيا، وانتهاءً بإجراء أربع جولاتٍ من الحوار مع إيران، على الرغم من محدودية مرودها العملي.  
تتعلق الملاحظة الرابعة بالرابحين والخاسرين من توتر علاقات واشنطن - الرياض؛ إذ يبدو أن الدبلوماسية الروسية بعد الحرب على أوكرانيا أصبحت أكثر نشاطًا في الخليج (مقارنةً بنظيرتها الصينية)، فقد اجتمع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بنظرائه الخليجيين في الرياض مطلع يونيو/ حزيران الماضي، في حين بدت السياسة الصينية أكثر تركيزًا على محيطها الآسيوي، ولم يقم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بزيارة السعودية، كما كان متوقعًا في أغسطس/ آب الماضي، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.

فرصة، بعد الأزمة الأوكرانية، أمام الدول العربية وتركيا وإيران، لتعزيز "الاستقلالية النسبية" لإقليم الشرق الأوسط

بيد أن بكين تبدو أكثر جهوزيةً (مقارنة بموسكو) في التعاون مع الرياض، وتسريع تنفيذ المشروعات والاستثمارات المشتركة، بما يدعم "مبادرة الحزام والطريق" الصينية ورؤية 2030 السعودية، لا سيما في مجالات الطاقة والاستثمار في مجمّعات التكرير والبتروكيميائيات المتكاملة، وتعزيز التعاون في سلاسل إمدادات قطاع الطاقة، وإنشاء مركز إقليمي للمصانع الصينية في السعودية، والتعاون في مجالات الكهرباء والطاقة المتجدّدة والهيدروجين النظيف وتعزيز الأبحاث والتطوير، فضلًا عن تنفيذ اتفاقية التعاون بين الحكومتين الصينية والسعودية في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
يبقى القول إن الدرس المستفاد من التوتر الراهن في العلاقات السعودية الأميركية يشير إلى إمكانية الضغط العربي على واشنطن، خصوصًا في لحظات الأزمات الدولية والإقليمية، شريطة تماسك النظام الإقليمي وتوافقه على سياسات الحد الأدنى، لا سيما بين مصر والسعودية والعراق والجزائر، كما حدث إبان حرب أكتوبر (1973).
وعلى الرغم من تفكّك "الإطار العربي" حاليًّا، واختراق إسرائيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بسبب تهافت أطرافٍ كثيرة على التطبيع معها، فإننا نشهد مرحلة جديدة في تطور العلاقات بين واشنطن والرياض، يتصاعد فيها وزن/ تأثير العاملين الدولي والإقليمي (أدوار الصين وروسيا وتركيا وإيران)، ما يعني إمكانية زيادة هامش مناورة السياسة السعودية، فضلا عن أطراف عربية أخرى وأنقرة وطهران، بعد الأزمة الأوكرانية.
وبغض النظر عن النتائج النهائية للحرب الروسية على أوكرانيا، لا سيما على تماسك سياسات القارّة الأوروبية العجوز، واستراتيجيات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وملفات الطاقة والأمن الغذائي وتصاعد التوترات الاجتماعية والاحتجاجات والتيارات اليمينية، فلا شك أن سياسات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تترك أثرًا مهمًّا في السياقين، الدولي والإقليمي، المحيطيْن بعلاقات واشنطن - الرياض، أقله في إظهار انتهاء مرحلة الفاعل الأميركي المهيمن على إقليم الشرق الأوسط خصوصًا، والنظام الدولي عمومًا. 
باختصار، ثمّة فرصةٌ، بعد الأزمة الأوكرانية، أمام الدول العربية وتركيا وإيران، لتعزيز "الاستقلالية النسبية" لإقليم الشرق الأوسط، على نحوٍ قد يكرّس، تدريجيًّا، خروج الإقليم من عباءة "الهيمنة الأميركية"، والتوجّه نحو تحالفات دولية وإقليمية تحقّق مصالح العرب والأتراك والإيرانيين بشكل أفضل مما تحقق في العقود الثلاثة الماضية.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل