عن "بغداد التي ضاعت في بغداد"

16 نوفمبر 2022
+ الخط -

العنوان مستل من العبارة التي اختتم بها الناقد العراقي باسم عبد الحميد حمّودي روايته "التاريخية"، إن صح تجنيسها كذلك، والتي أعطاها عنوانا لافتا "الباشا وفيصل والزعيم"، وعاد عبرها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، مستعرضا شخصيات تلك المرحلة من تاريخ العراق، وصولا إلى لحظة فارقة تمثلت في استحضار رجلي دين، يضع أحدهما عمامة سوداء على رأسه، والثاني يضع عمامة بيضاء، كناية عن بدء مرحلة جديدة بدأت مع وثوب الأحزاب الدينية الى الحكم بعد الغزو الأميركي للبلاد.

سعى حمودي، في روايته تلك، لأن يتملى تلك الشخصيات ويستنطقها، ويستعيد الجزء غير المكتوب من تاريخها، والذي طاولته شكوك وتأويلات كثيرة، واختلف الرواة فيه وعليه، وقد أحضر قضاة عدولا كي يحكموا عليهم، المؤرّخ الريادي عبد الرزاق الحسني والمحلل والباحث في التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث حنا بطاطو وسواهما، كما جاء ببعض من قدّر له أن يشهد ما فعله أولئك من ارتكابات، وما صنعوه من أحداث ووقائع. ومن بين الشهود القاص عبد الملك نوري والروائي فؤاد التكرلي، وأخرون بعثهم الكاتب أحياء كي يشاركوا في إضاءة جوانب من المشهد الذي أراد أن ينقله إلى المتلقي.

حاول حمّودي أن يكون محايدا في عرضه الأحداث التي عاشها العراقيون منذ تأسيس دولتهم الوطنية من خلال حوارات أجراها على ألسنة أبطاله، لكن نظرته الشخصية إلى تلك الأحداث بدت تطغى على مقاطع عديدة من الرواية. ويظهر لنا، على نحو مكشوف، حنين الكاتب إلى عهد الملوك وتناغمه مع ما فعلوه، ورفضه ما قدّمه رجال ثورة/ انقلاب 14 تموز ( 1958)، وإدانته الدور الذي لعبته "العسكريتاريا" العراقية والأحزاب الشمولية في وقف النمو الطبيعي للتطور الديمقراطي في العراق. ونجح الروائي في صنع خيوط رفيعة بين الوقائع الحقيقية والأحداث المتخيلة، وفي توظيفه ذلك في استنطاق تاريخٍ تصعب ملاحظته بسهولة، كما نجح في إخضاع وقائع الماضي لسيناريوهات متخيّلة، تتداخل فيها الأمكنة والمسافات الزمنية، لكنها تظل تحتفظ بنكهتها التاريخية التي تعطيها قدرا من "الواقعية" القابلة للتمحيص والمراجعة.

الرواية فتحت الباب أمام تفسيراتٍ معمّقة لأحداث ووقائع أصبحت جزءا من الماضي

أدار حمّودي في روايته حواراتٍ على ألسنة أبطاله، عبرت عن أسئلة ملتبسة عكست وقائع تدهور مريع عاشه العراقيون في عهود "الجمهوريات"، بخلاف الآمال العريضة التي كانت معلقة عليها. وبعض هذه الأسئلة ظل يتردد على الشفاه عندما لم يجد جوابا شافيا: من أمر بقتل فيصل الثاني وأفراد الأسرة الملكية؟ من أطلق حمّامات الدم في هذا الاتجاه أو ذاك؟ ما هو الدور الذي لعبه العسكر في تأجيج الخلاف بين الأطراف الوطنية في العهد الجمهوري الأول؟ كيف تصارع الأميركيون والبريطانيون على العراق، وهل ثمة علاقة بين الإنكليز وانقلاب تموز؟ إلى آخر الأسئلة المستفزّة التي ما تزال تشغل أذهان الباحثين في تاريخ العراق الحديث.

وإذا كان كاتب رواية "الباشا وفيصل والزعيم" قد أراد محاكمة "التاريخ الرسمي المكتوب" باستعادته ما هو غير مكتوب عن مرحلة شائكة في تاريخ العراق، فإنه، بعمله الروائي هذا، ربما يكون قد فتح الباب أمام تفسيراتٍ معمّقة لأحداث ووقائع أصبحت جزءا من الماضي.

يحضرنا هنا، بالمناسبة، عمل روائي للتشيلي خورخي أدواردز يلتقي مع عمل باسم حمّودي في أكثر من نقطة، وبما يشكل ما يمكن أن نطلق عليها عملية "توارد حواطر" بين حمّودي وأدواردز، فقد عرض الأخير في روايته "منزل دوستويفيسكي" (أظن أنها لم تترجم إلى العربية) لتاريخ بلده تشيلي في الفترة التي استنطقها حمودي، وخلصا معا إلى النتيجة نفسها، اذ اعتبر أدواردز أن سانتياغو عاصمة بلاده ذات المعنى الحضاري والاجتماعي قد فقدت بهاءها ومجدها في عهد الديكتاتور أوغوستو بينوشيه الذي حكم بلاده بالحديد والنار، مثلما نظر باسم حمّودي إلى عاصمة بلاده بغداد التي قال عنها إنها ضاعت وتراجع دورها الحضاري الذي عُرفت به عبر التاريخ.

ما هو لافت في الروايتين أيضا أنهما تبحثان عن معنى جديد للتعلّم من التاريخ، يقول إدواردز "التاريخ يعلمنا أن تطور مجتمعاتنا كي تكون أكثر عدلا وأكثر رفاهية، (..) هذا سبب قوي للعودة إلى التاريخ، إننا نشعر بالحنبن إلى أيامنا السالفات، لكننا ينبغي أن نكون مسرورين لأننا نواصل البحث عن عالم أفضل".

يبقى أن نقول إن رواية حمودي تمثل شهادة لأديب مخضرم عاش مرحلة تدهور بلده وانهيارها، وهو هنا يقترب من تحميل نفسه وجيله مسؤولية المشاركة في صنع تلك الأحداث الساخنة، أو على الأقل، الصمت عن إدانتها في حينها.

 

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"