عن الظمأ العالمي والمياه المعدنية المعبّأة
يعاني أربعة من كل عشرة أشخاص من فاتورة المياه في مدن تحت الضغط السكاني، حيث يتأثّر السكان ويهدَّدون بانقطاع المياه والظمأ في أكثر من دولة، سيما في أفريقيا والشرق الأوسط، ومن كارثة مائية طبيعية نتيجة تعرّضهم لخطر الحرمان وشحّ الاحتياطيات في أدنى مستوى بالنسبة لمياه الشرب، فالأولوية عادة ما تذهب إلى ري الزراعة وإنتاج الكهرباء. يدلّ الوضع على أزمة مياه عالمية في المدن، كما في الأرياف، سيما في المدن الأكثر اكتظاظا، مثل لوس أنجليس والسلفادور وكاراكاس وليما وبورتواليغرو وكراكاس وكابول وساوباولو والقاهرة وفريتاون ولاباز في بوليفيا وواغاداغو في بوركينا فاسو وبغداد. ليست المدن الكبرى أو متوسّطة الحجم هي فقط التي ستواجه معظم الصعوبات، بل المدن الصغرى أيضا، لأنها ستفتقر إلى القدرات التقنية، وإلى الخبراء ذوي العقول الكبيرة، حسب برنامج تقييم المياه العالمي الذي يركّز على الحلول المستوحاة من الطبيعة أكثر من التكنولوجيا للتعامل مع الأزمة.
تضاعف عدد سكان العالم ثلاث مرّات، بينما زاد استهلاك الإنسان للمياه ستة أضعاف. والماء مصدر حياة تستخدم ويساء استعمالها، والمياه العذبة لا تمثل سوى 3% فقط من المياه على هذا الكوكب، وبالكاد 1%، إذا استنفدت الأنهار الجليدية والمياه الدافئة التي يتعذّر الوصول إليها، فيما تحلية مياه البحارعلى نطاق واسع ستُحدث مشكلاتٍ بيئية وتلوثا أكبر. يحذّر مجلس المياه العالمي من زيادة الطلب على المياه بنسبة 55%، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في معادلة حسابية سيئة جدا. وبحلول منتصف هذا القرن، سيواجه 40% من سكان العالم مشاكل في إمدادات المياه (ضعف ما كان عليه العدد العام 2000)، وستتضاعف مع التغييرات الهيدرلوجية والمناخية والهجرات وطلبات اللجوء، فالماء والحرارة والهجرة موضوعات متصلة.
يدرك الناس أنهم يستخدمون المياه الجوفية بطريقة مفرطة نتيجة نقص الاستثمار المزمن في البنية التحتية وأنظمة المياه
تؤكّد الأمم المتحدة أن "المياه الصالحة للشرب، الآمنة والنظيفة والمتاحة بكلفة معقولة حقّ أساسي لكل فرد". وتحذّر منظمة الصحة العالمية من أن 2.1 مليار شخص من أصل سبعة مليارات لا يحصلون على مياه الشرب بصورة مُرضية. لم يسلم أي بلد بين عامي 2007 و2022 من أزمة المياه نتيجة زيادة الطلب على الاستهلاك مع تسرّب في 20% من شبكات الأنابيب، ومع انخفاض في المياه المتجدّدة بنحو 14%. يتنبأ علماء الهيدرولوجيا في حوض كولورادو من أن بحيرة باول من أهم الخزّانات في جنوب غرب البلاد قد لا تصل إلى نصف مستواها المعتاد، نظرا إلى انخفاض تساقط الثلوج والأمطار. ويغذّي هذا الحوض 40 مليون نسمة في مزارع عديدة في سبع ولايات أميركية وفي المكسيك. وتعاني ولاية كاليفورنيا من إجراءات متكررة لتخفيف استهلاك المياه، وتقع لوس أنجليس على قمّة المدن الكبرى الأكثر تهديدا في المستقبل. ويمكن أن يرتفع الطلب العالمي على المياه بنسبة 80% في العام 2050، في ظل تغير المناخ، حيث تبدو المنافسة شرسة على مياه الشرب.
وقد برزت، في الآونة الأخيرة، مشكلة أخرى تتعلق بمسألة الادّعاء (الجمالي) للمياه المعدنية المعبأة بأنها "نظيفة"، فنحن مدعوون، من جملة الأشياء التي تروّجها علوم الكيمياء والأحياء والأوبئة والأعصاب وعلم الجراثيم والعلوم البيئية، إلى اختبار جودة المياه ونوعيتها (البنك الدولي). كل ما تخبرنا به أن المياه تلك نقية كفاية لتحمّل كلفتها، حتى هذه الزجاجات أصبحت نادرة بشكل متزايد بسبب الإنحراف أو الانقياد الى التكتلات في الشركات الدولية، والنتيجة خداع المستهلكين عن طريق حملات إعلانية كاذبة.
المسألة وجودية، حين تدور حول هذا النوع من الأزمات البيئية غير القابلة للإصلاح، مثل التغيّر المناخي، إذا ظهر تحليل المياه، أزمات مثل النقص في الأوكسجين البيوكيميائي واستخدام النيتروجين الزراعي والتعاطي بطريقة غير شفّافة مع حياة كريمة للفقراء في العالم. هذا سبب آخر ربما لعدم التحرّك الدولي الكافي بشأن التغيّر المناخي للحفاظ على طبيعة نظام الأغنياء، مثل عشرات الأزمات الأخرى. كأن العالم عقد سلاما مع الشيطان. التخلي عن سومطرة، جزر أليفانتس، الدببة القطبية، السلاحف الجليدية لا يعني شيئا، ونحن نستمرّ في قيادة سيارات الدفع الرباعي، وتناول الهامبرغر. يصير تغير المناخ مجرّد كذبة، ولا نحتاج الى تطوير الموارد، لأن لها نمطا من الاستهلاك مبنيا على سقالات متهالكة، فيما التغيرالمناخي يمكن أن يسقط كل شيء، مثل الحرائق وذوبان القمم الجليدية والأعاصيرعلى نحو متزايد، والهجرة ودخان الحروب على سطح المياه، والمجاعة البشرية الجماعية وتفشّي الأوبئة.
تضاعف عدد سكان العالم ثلاث مرّات، بينما زاد استهلاك الإنسان للمياه ستة أضعاف
المياه المعبأة مثل ذلك كله، زجاجات يتم تسويقها في الأزمات والكوارث، جميلة على أساس أنها مياه في حالة طبيعية، مياه بيضاء أو وردية، والعلامات التجارية تتّجه نحو مزيد من "الأناقة الأوروبية"، مع أغطية أنيقة. مياه باردة ووافرة، يمكن تسعيرها غدا، مثل الذهب أو الألماس، لأنها مواد آمنة للشرب، من دون رصد دقيق لمستويات التلوّث. لكن ماذا عن المستهلكين، وماذا يعرفون عن مياههم، وقد تحتوي على مياه الصنبور، زرنيخ أقلّ من منتجها النظيف (وفق الإعلان الترويجي أن المنتج يتوافق مع إرشادات منظمّة الغذاء والدواء الأميركية). والمسألة لا تتعلق بالمياه وحدها، إنما بكيفية عمل عالم الرأسمال في هندسة نتاجات، وتوفّر مفردات لوعوده، وإخضاعها لتدميرالموارد، والإفراط في استخدامها بإعلانات مزيفة. ثم يتعلق الأمر بمجتمع ما بعد استهلاكي، يستنزف رصيد الأنهار، واستغلال الأراضي الرطبة وتصريف المياه العامة وبيعها بطريقة تخريبية (80%)، علما أن المساحات المرويّة تضاعفت، ومعها الحيوانات الأليفة، ثلاث مرّات في الخمسين سنة الماضية، بالتزامن مع ظهور طبقات وسطى في الهند والصين تأكل أكثر من اللحوم، وتشتري غسّالات كثيرة، ما سرّع أكثر في الاستهلاك والطلب العالمي على المياه (ريتشارد كونورد). في حين يجب أخذ الاتجاهات طويلة الأمد في النظم البيئية للحفاظ على الموارد المتوافرة، سيما في جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا والشرق الأوسط.
يدرك الناس أنهم يستخدمون المياه الجوفية بطريقة مفرطة نتيجة نقص الاستثمار المزمن في البنية التحتية وأنظمة المياه (31 محطّة في لبنان لمعالجة مياه الصرف الصحي لا تعمل بشكل صحيح، بعضها على نهر الليطاني، وألف محطّة ضخ مياه في البلاد متوقفة بسبب النقص في الكهرباء، وتعمد الأسر إلى شراء المياه من الشركات الخاصة، وتنفق عليها 21% من ميزانياتها).
ثمّة ثلاثة سيناريوهات للحلول: إما أن يخدم سحب المياه سكان المدن في المقام الأول، أو الزراعة لتأمين الأمن الغذائي، أو حماية احتياجات النظم البيئية، ما يعني صراعا بين القطاعات الحضرية والزراعية، هل يجب أن نعطي الأولوية لاستخدامات المياه، أم فقط تأمين المياه المعبّأة الصالحة للاستعمال، في حالات ما بعد النزاع أو الكوارث الطبيعية؟