عن الدستور التونسي والإجراءات الاستثنائية
لا أحد من الطبقة السياسية التونسية وخبراء السياسة ورواد القانون توقع أن يُتّهم الدستور التونسي الذي لم يمرّ على ولادته سوى سبع سنوات، ويُحمّل المسؤولية بهذه السرعة فيما آلت إليه الحياة السياسية من تعفّن وانسداد في الأفق أنتج حراكا احتجاجيا شاملا، انتهى في آخر المطاف إلى احتجاجات 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 التي ترجمها الرئيس قيس سعيّد في جملة من التدابير الاستثنائية، تجسّدت في إقالة رئيس الحكومة وغلق البرلمان وتجميد جميع اختصاصات النواب ورفع الحصانة عنهم جميعا. لم يُضمّن الرئيس تدابيره تعليق العمل بالدستور التونسي، وإنما كان يتساءل، في أكثر من مناسبة، كيف يمكن اعتبار ما اتخذه من تدابير استثنائية انقلابا والحال أنه لا يزال ملتزما بالدستور؟ كما لم يُشر، في أي من خطاباته وبيانات رئاسة الجمهورية وتدخلاته المتواترة في التجمعات الشعبية، إلى أنه قرّر حلّ البرلمان، على الرغم من أنه لم يتردّد في اعتبار هذا البرلمان خطرا يهدّد كيان الدولة، بعد وصم بعض نوابه بالارتشاء مقابل المصادقة على فصول وقوانين بعينها. وبالتوازي مع ذلك التحفظ والحذر الرئاسي، تسابق شكلانيو القانون الدستوري، وبعض شُرّاحه ومبتدئيه، إلى إعلان موت الدستور التونسي، مستشفّين ذلك من إعلان الرئيس يوم 20 سبتمبر/ أيلول الجاري بأنه سيصدر قريبا أحكاما انتقالية. وبالتالي، فإن سعيّد مقدم لا محالة على تعليق العمل به وتشكيل لجنة خبراء لإعداد نص دستور جديد، يقع عرضه على الاستفتاء.
الدساتير في مجملها حصيلة اتفاق مجتمعي، تتولى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية إدارة النقاش العام بشأنها بمشاركة جميع شرائح المجتمع
يعلم قيس سعيّد، الأكاديمي المختص في مجال القانون الدستوري، والذي قضّى ثلاثة عقود يعلّم الطلبة مبادئ القانون الأساسية وضرورات احترامه من الدولة والجماعات والأفراد، أن تونس عرفت ثلاثة دساتير في تاريخها الحديث والمعاصر: دستور 1861 الذي أعلنه محمد الصادق باي، وسقط إلى غير رجعة على يد انتفاضة ربيع العربان (والتسمية عنوان كتاب للمؤرخ توفيق البشروش) التي قادها علي بن غذاهم سنة 1864. الدستور الذي وضعه المجلس القومي التأسيسي سنة 1959 أي بعد ما يناهز القرن، بشرعية الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار الفرنسي ودولة الاستقلال. ثم انتظر التونسيون 55 سنة لإعلان دستور الثورة التونسية سنة 2014. جميع تلك الدساتير ولدت ولادة عسيرة، فهي ليست مجرّد تشريعات أساسية وضعها فنيون بلغة قانونية جافة، وإنما هي حصيلة صراع وتطور مجتمعي وتحولات عميقة عرفها المجتمع في ديناميكيته الداخلية، وتأثير محيطيه الإقليمي والدولي، وترجمتها الدولة عقودا اجتماعية تحدّد من خلالها هوية سكانها ونمط الحكم الذي يرتضونه وتنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذلك العلاقة بين أفرادها وجماعاتها ودوائر انتمائها وروابطها بالآخرين. كانت الدساتير الثلاثة ملائمة لطبيعة المراحل التي وضعت فيها، مستجيبة لمراكز الفعل السياسي وقواه الفاعلة داخليا وخارجيا وخلفيتهم التاريخية وتمثلهم الواقع المعيش. فقد اعتبر أستاذ القانون الدستوري، أمين محفوظ، في مقالته في مجلة أكاديميا سنة 2014 بعنوان "دستور 26 أفريل 1861 أول دستور في العالم العربي وأفريقيا"، أن "ولادة دستور 1861 ارتبطت بمجموعة من العوامل الخارجية والداخلية، أهمها التدخل الأوروبي وتطور الفكر الإصلاحي. وُضع هذا الدستور بطريقة غير ديمقراطية، إذ كلفت لجنة غير منتخبة، عملت باتصال مع قنصل فرنسا على إعداده، ثم تولى فيما بعد الباي منحه. ومع ذلك، فإنه يعدّ أول دستور في القارة الأفريقية وفي الدول الناطقة باللغة العربية. وقد شكّل هذا النص اللبنة الأولى لتطور الفكر الدستوري في التاريخ المعاصر لتونس". ورأى المؤرّخ الهادي التيمومي، في كتابه "تونس البورقيبية 1956-1987"، "أن دستور 1959 منح رئيس الجمهورية سلطاتٍ واسعة، وهنا نلمس تأثير الحبيب بورقيبة الذي كان يصرّ على ضرورة وجود رئيس له صلاحيات واسعة على رأس دولة مركزية، لأن تاريخ تونس هو في نظره تاريخ التمرّد الدائم الذي حال دون تشكل دولة وطنية". واعتبر أستاذ القانون، رافع بن عاشور، في مقالته المنشورة افتراضيا "ثنائية الحكم في الدستور التونسي الصادر في 27 جانفي 2014"، أن ذلك الدستور "تمت المصادقة عليه بالأغلبية تقريبا، في جو من البهجة والتآلف قلّ ما شهدته قبة المجلس الوطني التأسيسي، مما يجعله بالتأكيد نصا توافقيا، وبصفة عامة، عند مقارنة الدستور التونسي لعام 2014 بدساتير معاصرة أخرى، سواء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو في أوروبا، سنجده في مرتبة ممتاز ولاشك أنه سيساهم في دعم دولة القانون واحترام الحريات الأساسية. فهو يشكل بداية عهد جديد لمجتمع قرر إحداث قطيعة تامة مع نظام متسلط والانخراط بقوة في المسار الديمقراطي".
الدساتير ليست تعبيرا عن رؤية فرد، حتى وإن كان زعيما لا يشق له غبار، أو رغبة حزب أو مجموعة مهما كبر حجمها وعلا شأنها
الدساتير في مجملها حصيلة اتفاق مجتمعي، تتولى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية إدارة النقاش العام بشأنها بمشاركة جميع شرائح المجتمع وقواه الحية وضمان تمثيليتهم، قبل ائتمان جهةٍ ما على صياغته ووضع أحكامه، كثيرا ما تكون هذه الجهة جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا، وهي في مجملها عملية عسيرة وشاقة، لا تعيشها الشعوب الحرّة إلا مرة واحدة في القرن أو القرنين، فالدساتير ليست تعبيرا عن رؤية فرد، حتى وإن كان زعيما لا يشق له غبار، أو رغبة حزب أو مجموعة مهما كبر حجمها وعلا شأنها وقويت شوكتها ونمت ثروتها. وهي ليست لعبة يتسلّى بها أهل الحكم والسياسة وأصحاب القانون والمصالح، وإنما هي تعبير عما يشبه الإجماع الذي يعكس إرادة مجتمع ما وتطوّره في مرحلة معينة من تاريخه وبناء حضارته. ولذلك أجمع على الدستور التونسي لسنة 2014 كما هو محفوظ في دفاتر المجلس الوطني التأسيسي ومداولاته أغلب التيارات الفكرية والسياسية الممثلة بذلك المجلس المنتمين إلى اليسار الماركسي من حزب المسار (الحزب الشيوعي التونسي) وحزب العمال الشيوعي وحزب الوطنيين الديمقراطيين وحركة النهضة الإسلامية وحركة الشعب القومية العربية وحزب المبادرة الدستوري وحزب التكتل الليبرالي وكل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والحزب الديمقراطي التقدّمي (الحزب الجمهوري) متعدّدي الانتماءات، فالتقى في التصويت له، على سبيل الإشارة لا الحصر، النائب منجي الرحوي، ممثل اليسار التونسي، بالنائبين الصادق شورو والحبيب اللوز، المنتميين إلى حركة النهضة، الإسلامية، والمعروفين بالتشدد الديني، هذا من دون نسيان النائب رابح الخرايفي الذي راوح في انتمائه السياسي بين الناصرية والحزب الديمقراطي التقدمي، وهو الذي يحثّ يوميا رئيس الجمهورية على تعليق العمل بالدستور.
لا يحتاج قيس سعيّد، الأكاديمي والرئيس، إلى الخروج على الدستور، كما يزيّن له ذلك شكلانيو القانون الدستور
أقسم قيس سعيّد، بصفته رئيس الجمهورية التونسية على احترام الدستور التونسي لسنة 2014، وفق الصيغة الواردة في الفصل عدد 76، ولا معنى لذلك الاحترام سوى الالتزام بكل أحكام الدستور، بما في ذلك ما ورد في التوطئة أن الثورة التونسية هي ثورة الحرية والكرامة، 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011. والقسم هو ذلك الميثاق الغليظ أو اليمين التي تم أداؤها تحت قبة مجلس نواب الشعب يوم التولّي، وهو ما يستدعي الحفظ وعدم النقض كما جاء في القرآن العظيم "واحفظوا أيمانكم"، "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها"، وكل نقضٍ يضع القسم في خانة اليمين الغموس، وينتهي بالأزمة السياسية والدستورية إلى مأزق أخلاقي يُفسد أي حركة إصلاحية ورغبة جدّية في التغيير، إذا ما قرّر الرئيس سعيّد ذلك.
لا يحتاج قيس سعيّد، الأكاديمي والرئيس، إلى الخروج على الدستور، كما يزيّن له ذلك شكلانيو القانون الدستوري، فقد مكّنه الفصل 80 من حماية البلاد من الخطر الداهم الحقيقي، المتمثل في حكومة الهواة ورئيسها وأحزابها الداعمة وفلسفتهم في الحكم القائمة على التمكين والغنيمة، وله أن يقود حركة إصلاحية عميقة، تتولاها حكومة وطنية تقطع دابر الفساد بأنواعه، السياسي والمالي والعقاري والإداري والجبائي والدبلوماسي، الذي مارسته، ولا تزال، بعض أحزاب الحكم ومن حالفها من اللوبيات المرتبطة بها عشر سنوات، وترسم استراتيجية واضحة لإصلاح المالية العمومية والجباية والدين العمومي والمنشآت الوطنية والتربية والتعليم العالي والتكوين المهني والصحة والفلاحة والنقل، وإعداد خطّة للقضاء على البطالة والتشغيل الهش والمناولة ومقاومة الإرهاب والجريمة المنظمة. أما دون ذلك من تعليق للدستور وإنهاء العمل بأحكامه وما أفرزه من مؤسسات، لا شك أنها تستدعي الإصلاح، فهو الدخول في متاهات الجدل القديم العقيم الذي أخذ ثلاث سنوات من عمر التونسيين، المتعلق بالهوية والدين ونظام الحكم والدولة المدنية والحرّيات العامة والخاصة وتأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات وشروط التداول السلمي على السلطة، وغير ذلك من قضايا خلافية انتفت مبرّرات طرحها وحُسم القول فيها، وقد تؤدّي إثارتها من جديد، والبتّ فيها من زاوية نظر فردية أو مجموعة محدودة لا تتمتع بالتمثيلية الشعبية، إلى انفجار اجتماعي أو احتراب أهلي، نجت منه تونس في السابق، بعد تضحيات ثقيلة على غرار اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي.