عن الجيش السوري في ذكرى تأسيسه
خلال 80 عاماً مضت منذ تأسيسه الرسمي في أغسطس/ آب 1945، مرّ الجيش السوري في مراحل مختلفة، تغيّرت خلالها بنيته وعقيدته العسكريةُ، وطبيعةُ دوره في حياة البلاد. حتّى صورته في أذهان السوريات والسوريين ومواقفهم منه، لم تكن نفسها بين مرحلة وأخرى، فهذا الجيش الذي واجه إسرائيل في أكثر من حرب، لم يتورّع عن التنكيل بأبناء شعبه و"الشعوب الشقيقة" في مناسبات عدّة. وإذ برّر بعض ضبّاطه انقلاباتهم بحماية استقلال سورية وسيادتها من تدخّل القوى الإقليمية، سلّمها ضبّاط آخرون لغير قوّة إقليمية بذريعة شعاراتٍ قوميةٍ كبرى.
نظرياً، يفترض في أيّ جيش أن يكون من أكثر رموز وحدة البلاد أهمّيةً، حامياً شعبها، وضامناً سيادتها واستقلالها. إلّا أنّ سيرة الجيش السوري الفعلية تقول إنّه كثيراً ما كان طرفاً في انقساماتها السياسية، قامعاً لشعبها، ومُفرّطاً بسيادتها واستقلالها، ودائماً تحت مزاعم وطنية، تخفي وراءها مطامعَ شخصيةٍ أو حزبيةٍ، تحكم سلوك ثلّة من الضباط المُغامِرين. سبب ذلك دخول الجيش السوري مُعترَك الصراع السياسي منذ الاستقلال، وما أصابه من حُمّى الانقلابات التي لم تكن الأيادي والأموال الخارجية بعيدة منها دائماً.
الحكم البعثي في سورية، في طوره الأسدي المديد خصوصاً، هو خلاصة مسار مُتعرّجٍ دامٍ من تسييس الجيش وعسكرة السياسة
رغم تدخّل العسكر المُبكّر في السياسة وشؤون الحكم، إلّا أنّ إحكام قبضتهم على السلطة تطلّب سنوات، استمرّ الشدُّ والجذب بينهم وبين القوى السياسية، التي رفضت تسليم أمرها لإرادة الجيش فأصبح هذا طرفاً بين مجموعة أطراف، ضمن توازنات يضبطها النظام الجمهوري البرلماني الناشئ. وبالتالي، احتاج الضبّاط دوماً إلى التحالف مع هذا الفريق السياسي أو ذاك، وهو ما أدركه حزب البعث العربي الاشتراكي، ونجح في الاستثمار فيه أكثر من غيره، ولا سيّما بعد التخلّص من خصم سياسي وأيديولوجي عنيد، كان له امتداده في الجيش، هو الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد الحملة التي طاولته سنة 1955، إثر اتّهامه بالوقوف وراء اغتيال العقيد عدنان المالكي، نائب رئيس الأركان آنذاك.
أمّا تفريط الجيش باستقلال سورية فليس كلاماً إنشائياً، وإنّما يعود إلى دور كبار الضبّاط في السعي إلى الوحدة مع مصر سنة 1958، إذ أتت تلك الخطوة بعد ما يشبه انقلاباً أبيضَ بالشراكة مع حزب البعث، لفرض أمرٍ واقعٍ على الحكومة المدنية والرئيس شكري القوتلي. اعتقد العسكريون وقتها أنّ ذلك سيضمن لهم حُكم البلاد، ظنّاً منهم أنّ جمال عبد الناصر سيعتمد عليهم في حكم سورية من خلال مجلسٍ للثورةِ على الطريقة المصرية. ولم تكن شعارات "الوحدة العربية" إلّا تمويهاً لرغبةٍ عميقةٍ لدى العسكر والبعثيين في حسم الصراع على السلطة، وهنا تلاقت مصالحهم مع سعي عبد الناصر إلى التحكّم في السياسة الخارجية السورية، بما يخدم تنافسه على النفوذ في المنطقة مع الغرب والهاشميين والسعوديين، الذين كان لهم حلفاؤهم ضمن النُخْبَة السياسية السورية. لكنّ النتائج جاءت بعكس ما أراد الضبّاطُ السوريون، فقد لحقت بالجيش السوري أضرارٌ كبيرةٌ في ظلّ دولةِ الوحدة، وأصبحت قيادته الفعلية في أيدي ضبّاط مصريين، وعانى من حملات تسريح بالجملة، طاولت نحو نصف ضبّاطه لأسباب سياسية، أو لمجرّد الشكّ في ولائهم. وبمثل ما عمل ضبّاط سوريون لتحقيق الوحدة، انفرط عقدها أيضاً بمبادرة من ضبّاط سوريين في انقلاب 28 سبتمبر (1961).
لم يكن الجيش المسؤول الوحيد عن إحباط التجربة السورية الناشئة في الديمقراطية بُعيد الاستقلال، وإن كان صاحب الدور الأكبر
لم تُؤثّر الانقلابات العسكرية الأولى بين عامي 1949 و1954 على هيكلية القوّات المسلّحة وقدراتها البشرية، لأنّها كانت تنحصر في تغييراتٍ محدودةٍ في مستوى القيادة، لكنّ النتائج الكارثية ظهرت بعد الوحدة السورية المصرية وما تلاها، بسبب عقلية "التطهير"، التي أرساها الحكم الناصري، واستمرت بعد الانفصال، حتّى غدت مسألةُ "تنظيف" الجيش من الخصوم السياسيين أمراً مألوفاً يجري بصورة روتينية بعد كلّ مغامرة سياسية يخوضها العسكر، وتطوّرت مع بلوغ سطوتهم ذروتها، باستيلاء الضبّاط البعثيين على الحكم عام 1963، فدفعوا بهذا النهج إلى أقصاه، من خلال فكرة "الجيش العقائدي"، الذي صارت أولى مهمّاته "حماية الثورة"، أي الدفاع عن سلطة البعث، وقمع معارضيه. ومع كلّ خطوة في عالم السياسة والحكم، كانت أمراض المجتمع تتسرّب إلى الجيش السوري أكثر فأكثر، لتغيب العوامل الأيديولوجية والحزبية التي كانت تجمع فئات الضبّاط، وتحلّ في محلّها الروابط العشائرية والطائفية والمناطقية، ولا سيّما في ظلّ سلطة البعث، فحلّت معايير الولاء والعصبية في محلّ الكفاءة والأقدمية العسكرية.
لم يكن الجيش المسؤول الوحيد عن إحباط التجربة السورية الناشئة في الديمقراطية بُعيد الاستقلال، وإن كان صاحب الدور الأكبر. ثمّة أيضاً مسؤولية تتحمّلها الأحزاب الأيديولوجية، التي استلهمت النماذج الفاشية الأوروبية، لأنّها سعت إلى تقويض النظام الديمقراطي بعدما رأت أنّها غير قادرة على بلوغ السلطة، وتحقيق مشاريعها من خلال التنافس السياسي الديمقراطي، فبذلت جهودها لاختراق الجيش واستخدامه في الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها. والحكم البعثي في سورية، في طوره الأسدي المديد خصوصاً، هو خلاصة مسار مُتعرّجٍ دامٍ من تسييس الجيش وعسكرة السياسة، ثم انحسارها بفعل تسلّط الجيش وتحوّله أداةً لفرض هيمنة حزب بعينه على الدولة والمجتمع، قبل أن ينتهي الأمر بالجميع، دولةً ومجتمعاً وحزباً وجيشاً، في قبضة الأسد ( الأب)، قائداً أوحدَ أسّس لحكم عائلي وراثي، كان ثمنُ استمراره بعد ربيع 2011 دمارَ البلاد وتمزّق جيشها، أو ما تبقّى منه.. وكلّ عام وأنتم بخير.