عن الأحزاب والتدابير الاستثنائية في تونس
يبدو أن هروب نبيل القروي، رئيس حزب قلب تونس، الفائز بالمرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، إلى الجزائر في نهاية أغسطس/ آب الماضي، واعتقال السلطات الجزائرية له، وتقديمه للمحاكمة بتهمة اجتياز الحدود خارج إطار الصيغ القانونية، قد نبّه الرأي العام في تونس وخارجها إلى هشاشة المنظومة الحزبية لما بعد 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011. فالمعروف لدى المختصين في دراسة الأحزاب التونسية أن "قلب تونس" تأسس قبل انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول التشريعية والرئاسية بستة أشهر، وفاز بكتلة نيابية من 38 نائباً من بين 217، ولم يعقد مؤتمراً تأسيسياً، وليس في رصيده نضالات تاريخية من أجل الحرية والديمقراطية والتعدّدية الحزبية والحق في المشاركة والتداول السلمي على السلطة، ولم يصدر لوائح أو مراجع فكرية وسياسية تحدّد هويته واتجاهاته وبرامجه، مع استثناء إيغاله في البراغماتية ولعبة المصالح ورهاناتها وتوظيف الإعلام واستخدام العمل الخيري والأهلي لغايات حزبية. هو حزبٌ أنشئ على عجل، للوصول إلى السلطة بعد تحالفه مع حركة النهضة الإسلامية، على الرغم من وعوده الانتخابية التي كانت نقيض ذلك التوجه، بالطريقة نفسها التي ظهرت بها أحزاب أخرى لممارسة الحكم من 2014 إلى 2019، ثم اندثرت وتلاشت، وذهبت ريح أغلبها على غرار "نداء تونس" و"تحيا تونس" و"مشروع تونس" و"آفاق تونس" و"الوطني الحرّ". ولن تخسر التجربة التاريخية الحزبية التونسية التي انطلقت مع تأسيس الزعيم الإصلاحي، عبد العزيز الثعالبي، الحزب الحرّ الدستوري التونسي قبل ما يزيد على قرن، شيئاً من رصيدها بانهيار أحد أحزاب مقاولات الحكم، بعد هروب رئيسه، وتتالي الاستقالات في صفوف قياداته ونوابه أياماً معدودات، بعد إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، التدابير الاستثنائية في تونس طبقاً للفصل الـ 80 من الدستور التونسي على خلفية إمكانية استهداف تلك الإجراءات الأحزاب السياسية والعمل الحزبي بالمنع، وهو ما لم يحدث.
اقتصرت تجربة الأحزاب والتنظيمات السياسية، قبل الثورة التونسية سنة 2011، على مجموع العائلات الفكرية والسياسية التقليدية
المنظومة الحزبية التونسية التي اصطدمت بنظامي الحبيب بورقيبة الذي أسس نظام الحزب الواحد الحاكم، وحظر نشاط الأحزاب المعارضة سنة 1963، قبل السماح لبعض التكوينات الحزبية بعودة شكلية مشروطة سنة 1981، وبحكم زين العابدين بن علي الذي بعث نظام حزب الأغلبية الحاكم الذي سمح بنشاط بعض الأحزاب المعارضة ديكوراً ديمقراطياً، كانت هذه المنظومة، في مجملها، مستندة إلى تماسك إيديولوجي متين، وإلى استعداد لدفع الضريبة التي هي من مقتضيات النضال من أجل حق المشاركة السياسية، وتولي الحكم جزئياً أو كلياً من طريق انتخابات حرّة.
وبعيداً عن المناكفات السياسية الآنية، اقتصرت تجربة الأحزاب والتنظيمات السياسية، قبل الثورة التونسية سنة 2011، على مجموع العائلات الفكرية والسياسية التقليدية، فكانت البداية مع الدستوريين والشيوعيين الذين انطلق نشاطهم في تونس سنة 1920، ثم ظهر القوميون العرب، بفروعهم البعثية والناصرية، والماركسيون العرب، بعد الحرب العالمية الثانية والإسلاميون الذين لم يظهروا في تونس إلا بعد حرب الأيام الستة سنة 1967، على الرغم من ولادتهم المبكرة في مصر التي تعود إلى نشأة الإخوان المسلمين سنة 1928، ولم تكن الأحزاب والتنظيمات السياسية التي ظهرت لاحقاً سوى تفريعاتٍ لهذه التيارات الكبرى .
القائمة الطويلة التي تحتفظ بها إدارة الأحزاب في رئاسة الحكومة التونسية منذ سنة 2011، وتضم ما يناهز 230 عنواناً حزبياً، مضللة، لا تعكس حقيقة الحياة الحزبية التونسية، فجل تلك المسميات لم يتجاوز فعلها السياسي الحبر الذي خُطّ به اسم الحزب والعنوان المودع في قصر القصبة. أما الوجود الحزبي الحقيقي، فلا يتجاوز 15 حزباً ممن لها تمثيل برلماني، وآخر في المجالس البلدية، وثالث مدني تكشفه، من حين إلى آخر، بعض التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها العاصمة وبعض المدن، استناداً إلى قاعدة سياسية قديمة متجدّدة، "ضدّ السلطة" مهما كان لون تلك السلطة وتوجهها واختيارها.
ما عرفه البرلمان التونسي من فوضى وخيانة من فريق من نوابه وكتله وأحزابه لا يجب أن يؤدّي إلى إدانة البرلمان بكامله
أحدثت التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد يوم 25 يوليو/ تموز الماضي ردود فعل متفاوتة لدى الأحزاب، واضطرابات في المواقف، خصوصاً أن أهم بنود تلك الإجراءات تجميد البرلمان وكل اختصاصات النواب ورفع الحصانة عنهم جميعاً، حتى إن سعيّد صرّح، في أكثر من مناسبة، بأنّ البرلمان ليس مجرد خطر داهم، بل هو خطر جاثم، الأمر الذي يجعل منه عاملاً رئيسياً في إقرار التدابير المعلنة. والواقع أن تلك الخطوة كانت تستهدف الأحزاب، على الرغم من عدم تعليق الرئيس النشاط الحزبي، فالغاية الرئيسية من عمل الأحزاب هي الوصول إلى البرلمان، عبر الانتخابات الحرّة والديمقراطية، وتولّي السلطة التشريعية وتشكيل الحكومة أو المشاركة فيها أو معارضتها، ما يضع حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس الذين اعتبروا "حدث 25 يوليو" انقلاباً مكتمل الأركان في سلة الإدانة نفسها مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي الذين اعتبروا ذلك الحدث حركةً تصحيحيةً في مسار الثورة التونسية.
ولم تتضح بعد العوامل الخفية التي حكمت قيس سعيّد في حلّ البرلمان، فرغم العبث بمهامه، والانحراف عن دوره التشريعي والرقابي وإنتاج القيم السياسية والقانونية بهدف التنمية والتقدم وخدمة الشعب، وتحويله إلى حلبة للصراع والعنف بأشكاله المختلفة بين تنظيمات الإسلام السياسي (النهضة وائتلاف الكرامة) وجماعة حزب الدستوري الحر، إحياءً لصراع دموي قديم، بممارسة الشعبوية والابتذال السياسي، فإن تلك الممارسات لا ترتقي إلى درجة تهديد الدولة، على شاكلة ما قام به تنظيم "داعش" الإرهابي من محاولة بعث إمارة إسلامية في مدينة بنقردان في التخوم التونسية - الليبية سنة 2016 باعتماد القوة المسلحة، الأمر الذي واجهه الرئيس الباجي قائد السبسي والحكومة التونسية آنذاك بتصدٍّ عسكري وأمني وشعبي متميز، من دون اللجوء إلى تفعيل الفصل الـ 80 من الدستور، على الرغم من أن ما جرى كان خطراً داهماً.
لا توجد ديمقراطية على وجه الأرض من دون أحزاب سياسية، ومن دون برلمان يمثل السلطة التشريعية
وقد يُفهم موقف قيس سعيّد من الأحزاب والعمل النيابي عموماً من خلال حديثه إلى صحيفة "الشارع المغاربي" يوم 12 يونيو/ حزيران 2019، أنّ "الديمقراطية النيابية في الدول الغربية نفسها أفلست وانتهى عهدها"، وأن "الأحزاب جاءت في وقت معيّن من تاريخ البشرية، بلغت أوجها في القرن الـ 19 ثم في القرن الـ 20 ثم صارت بعد الثورة التي وصلت إلى مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، قد يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها". وفي هذه الحالة، فإن موقف سعيّد الشاب كان أكثر نضجاً من رؤيته وهو يعدّ نفسه لخوض معركة الانتخابات الرئاسية التي سيفوز بها لاحقاً، بعد دخوله العقد السابع من عمره. كتب قيس سعيّد، بالاشتراك مع عبد الفتاح عمر، في مقدمة كتاب "نصوص ووثائق سياسية تونسية" الصادر عن مركز الدراسات والبحوث والنشر بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس سنة 1987: "وقد أدرجنا بهذه المجموعة إلى جانب الوثائق والنصوص المتعلقة بالمؤسسات الدولتية نصوصاً ووثائق تتصل بالتنظيمات الحزبية، وذلك نظراً لما للأحزاب السياسية من أهمية في حياة الأنظمة السياسية، حتى إن هذه الأنظمة أصبحت اليوم تعرّف بالمعطيات الحزبية التي تستند إليها أكثر من تعريفها بمعطيات أخرى". وقد يكون هذا التغيّر في تفكيره السياسي ناتجاً من تأثره باليوتوبيا المجالسية القديمة التي بشّرت بها بعض التيارات الماركسية العتيقة، كما شرحها هيثم المدوري في مقاله في موقع "حقائق أونلاين" في 21/8/2021 بعنوان "التأسيس الجديد مشروع ينوي بعثه قيس سعيّد وهذه أطره الفكرية"، ودحضها عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، في كتابه "السياسة في الحرب العالمية الثانية كتابات وخطب 1914-1918" (ترجمة ميشيل كيلو، منشورات المنظمة العربية للترجمة، 2015)، حين "دعا إلى إصلاح النظام السياسي في ألمانيا من خلال اعتماد النظام الديمقراطي الذي يقوم على اكتشاف الزعماء وانتخابهم في منافسة حرّة. ومن ثمّة، لا بد من إجراء إصلاحات دستورية، واعتماد الاقتراع العام ومنح سلطات واسعة للبرلمان، باعتباره المؤسّسة التي تنجب الساسة، فالبرلمان هو الوحيد القادر على إبراز قادة البلاد السياسيين فأفضل موظف لا يمكنه أن يستحيل قائداً سياسياً. فللسياسة أهلها والبرلمان هو المكان الوحيد لاصطفاء السياسيين لأنه مكان للسجال السياسي". وفي السياق، انتقد فيبر إرث بسمارك الذي لم يترك أي تقليد سياسي للبلاد، لأنه جعل الدولة مجسّدة في شخصه.
الدرس الفيبري في المسألة الديمقراطية والبرلمانية عميقٌ جداً، وهو جدير بأن تأخذ منه العبر لربح الوقت وعدم تكرار الأخطاء. فتجميد البرلمان التونسي أو حلّه سيكون مؤقتاً، ولن يطول أمده، فلا توجد دولة من دون مؤسسة تشريعية، ولا توجد ديمقراطية على وجه الأرض من دون أحزاب سياسية، ومن دون برلمان يمثل السلطة التشريعية، والأحزاب ستعرف ولادة جديدة إن هي شاخت وهرمت، فلا حياة سياسية من دون أحزاب، فتلك حتمية ديناميكية الشعوب والأمم.
ما عرفه البرلمان التونسي من فوضى وخيانة من فريق من نوابه وكتله وأحزابه لا يجب أن يؤدّي إلى إدانة البرلمان بكامله، فقد انتخب الشعب نواباً تعلّقت بهم قضايا فساد وتمجيد للإرهاب وسماسرة ومهرّبين وعديمي الكفاءة العلمية والسياسية. وفي الآن نفسه، انتخب أحزاباً ونواباً آخرين على درجة عالية من روح المسؤولية وسموّ الأخلاق والوطنية ونظافة اليد، والاستماتة في الدفاع عن الناخبين وهمومهم ومشاغلهم، وعن الدولة ومؤسساتها وسيادتها، فكيف يؤخذ الفريق الثاني بجريرة ما فعله الفريق الأول؟