عن احتجاجات المزارعين في فرنسا وأوروبا

08 فبراير 2024
+ الخط -

بين عشيةٍ وضحاها تحوّلت الجرّارات في فرنسا من وسيلة إنتاج إلى وسيلة احتجاج. قطعت الجرّارات الثقيلة الحركة مئات وربما آلاف الكيلومترات، كي ترفع الصوت وتقول لعموم الفرنسيين "إذا توقفنا تجوعون"، وتكمل "ليست هذه أوروبا التي نريد". هناك من قال إن الجرّارات الزراعية تحوّلت إلى وسيلة حرب، فباتت تغلق الطرقات كما لو أنها دبّابات، وزاد في صدق هذا التشبيه مشهد وقوف الجرّارات الزراعية على الطرق السريعة في مواجهة العربات المصفّحة التي نشرتها وزارة الداخلية لمنع الفلاحين من دخول العاصمة.

الحقيقة أن بوادر احتجاجات الفلاحين في فرنسا ظهرت في الخريف الماضي، حين بدأ الفلاحون يقلبون اللافتات التي تحمل أسماء البلدات والقرى رأساً على عقب، في احتجاج رمزي يقول للحكومة إنها في سياساتها الزراعية إنما تسير على الرأس. ولم تكن هذه الرسالة خافية على المسؤولين، ولا سيما المنتخبين منهم، مثل رؤساء البلديات، فقد رأى في حينها رئيس جمعية رؤساء البلديات ما رآه الفلاحون، وقال "بالفعل إننا نسير بالمقلوب"، يعني أن الحكومة تعمل من جهة على تقييد "حرية" الفلاحين بفرض نواظم بيئية عليهم، ومن جهة أخرى، تنهج سياسة التجارة الحرّة مع بلدانٍ لا تقيّد فلاحيها بمعايير بيئية مثل الاتحاد الأوروبي. ولكن ربما لم تتوقع الحكومة الفرنسية، ولا حتى النقابات الزراعية، أن تصل قوة الاحتجاج إلى هذا المستوى الذي فاجأ الجميع.

والحال أن واقع المزارعين في فرنسا غير مريح، بحسب المؤشّرات والأرقام التي تحملها التقارير التي تقول إن ربع المزارعين يعيشون في فقر، وإن نسبة الانتحار بين المزارعين الفرنسيين يصل معدلها إلى اثنين في اليوم، وأن المزارع الصغيرة المعتمدة على الأسرة تختفي بمعدل يقترب من مائتي مزرعة كل أسبوع، لصالح المزارع الكبيرة التي تحوز أكبر قدر من مساعدات الدولة، لأنه يتم حساب مقدار المساعدة وفق عدد الهكتارات.

تطرح احتجاجات الفلاحين في فرنسا السؤال عن التعارض الظاهر بين مصالح الفلاحين ومتطلبات حماية البيئة

فاق التعاطف الشعبي مع حركة الفلاحين التعاطف الذي شهدناه مع أصحاب السترات الصفراء. يعمل الفلاحون في شروط قاسية وهم مصدر غذائنا، يقول الفرنسيون. بالفعل، يقدّم الناس الطعام والشراب للفلاحين الذين يغلقون بجرّارتهم الطرقات المؤدّية إلى باريس، ويفتحون بيوتهم كي يبيت فيها سائقو الجرارات المتجهة، رغم بطء حركتها، للمرابطة في مناطق تبعد مئات الكيلومترات عن مزارعها.

وبصرف النظر عن أن الفلاحين يشكّلون، في العموم، وسطاً مناسباً لنشاط اليمين التقليدي الفرنسي، وعن أن اليمين المتطرّف يخترق اليوم هذا الوسط ويستثمر في موجة غضب المزارعين الذي يشكّل تربة مناسبة لاستقبال كلام اليمين المتطرّف الذي يرى في الاتحاد الاوروبي "سجناً"، ويرى أن الاتحاد "يقتل فلاحينا"، بحسب تعبير رئيس حزب (التجمّع الوطني). وبصرف النظر عن دخول خيارات سياسية كبرى على خط الصراع الزراعي "المطلبي"، ومنه أن تحمل بعض الجرّارات الزراعية شعار "Frexit"، على غرار "Brexit" البريطانية، الطامح إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يتبنّى استراتيجية "الصفقة الخضراء" كي يجعل من أوروبا محايدة مناخياً بحلول 2050، والذي يرى المزارعون أن سياساته بخصوص التجارة الحرّة وتقييد استخدام المبيدات والأسمدة تفقرهم. مع العلم أن فرنسا، وهي القوة الزراعية الأولى داخل الاتحاد الأوروبي، هي الدولة الأوروبية الأكثر استفادة من المساعدات الزراعية التي يقدّمها الاتحاد، بواقع 9.5 مليارات يورو سنوياً. نقول بصرف النظر عن هذا كله، تطرح احتجاجات الفلاحين في فرنسا، وفي عدد غير قليل من الدول الأوروبية، على المراقب أمرين: الأول السؤال عن التعارض الظاهر بين مصالح الفلاحين ومتطلبّات حماية البيئة، وهو ما يبدو أكثر وضوحاً في حالة المزارعين الكبار الذين يسيطرون على الزراعة وعلى كبرى التشكيلات النقابية الفلاحية، مثل الاتحاد الوطني لنقابات المستثمرين الزراعيين في فرنسا (FNSEA).

يدفع هذا الأمر إلى التفكير في سبل للمواءمة بين مساندة حقّ الفلاحين في تحقيق دخول أعلى تسمح لهم بحياة أفضل وبمردود يكافئ تعبهم، وبين مساندة القوانين التي تحمي البيئة والصحة العامة والتي من شأنها أن تقلل إنتاجية الأرض وبالتالي القدرة التنافسية في سوق مفتوحة. هذا التعارض هو، في الواقع، المدخل المناسب لأحزاب اليمين الأوروبي التي تدير الظهر للمخاطر البيئية، وتميل أكثر فأكثر باتجاه الانعزال.

فاق التعاطف الشعبي في فرنسا مع حركة الفلاحين التعاطف الذي شهدناه مع أصحاب السترات الصفراء

والأمر الثاني الذي تثيره احتجاجات المزارعين في أوروبا أن المخاطر البيئية التي تطاول الجميع من دون تمييز في الطبقة أو المنبت أو الثقافة ... إلخ، والتي تجد، في أوروبا، أحزاباً ونخباً واعية تناضل من أجل تجنّبها والحد منها، تفتقد لذات اجتماعية لها مصالح مباشرة في درئها، ويمكن أن تدافع عنها كما يمكن أن تدافع الفئات الاجتماعية المختلفة عن مصالحها المباشرة، أي كما يفعل الفلاحون في أوروبا دفاعاً عن مصالحهم الزراعية الآن. غياب الذات الاجتماعية ذات المصلحة "البيئية" المباشرة، يجعل من المطالب البيئية سندريلا المطالب، فهي في الواقع أول ما تضحّي به الحكومات حين تواجه موجة احتجاجات تتعارض مطالبها مع المعايير البيئية، تماماً كما يجري اليوم مع تراجع المفوضية الأوروبية مثلاً عن خطّة خفض استخدام المبيدات الحشرية، التي كانت تهدف إلى خفض استخدام المبيدات إلى النصف بحلول العام 2030. هذا فضلاً عن تجميد الاتحاد مطالبة المزارعين بالإبقاء على نسبة من أراضيهم من دون استصلاح من أجل تحسين التنوع البيولوجي، في مسعى الاتحاد لامتصاص غضب المزارعين.

مع تزايد شعبية التيارات اليمينية في أوروبا، الأمر الذي قد ينعكس في زيادة مندوبي هذه الأحزاب في البرلمان الأوروبي في الانتخابات القادمة في النصف الأول من يونيو/ حزيران المقبل، من المرجّح أن يتراجع الاتحاد الأوروبي عن خطوات بيئية أخرى تهدف إلى حماية الأرض (مثل تنويع المحاصيل وتبوير إلزامي لجزء من الأرض)، وحماية البيئة (مثل تقييد استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة)، هذا في حين يزداد عدد ضحايا المواد الكيماوية المستخدمة في الزراعة ليس فقط بين المستهلكين بل أيضاً بين الفلاحين أنفسهم. المطالب البيئية هي في الواقع مطالب تخصّ الجميع، ولا تخصّ أحداً في الوقت نفسه.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.