عن إلياس كانيتي وعن النيات

25 اغسطس 2022
+ الخط -

في كتابه التأملي "شذرات"، الصادر عن دار كلمة في أبوظبي، يقول الكاتب الألماني إلياس كانيتي: "أخسّ أنواع الأحاسيس التي أعرفها، الاشمئزاز من المضطهدين، كما لو أن انسحاقهم من خصال فيهم، إحساسٌ يسكن أنبل الفلاسفة وأعدلهم".

نعم، الاشمئزاز من المضطهدين من أخسّ الأحاسيس وأحطّها، بل أحسّ أن قيمة النبل في أي شخصية كانت، لا بد لها من أن تتجاوز وتترفع عن هذا الإحساس الخسيس، مهما كانت شخصية المضطهد أو عرقه أو دينه أو أيديولوجيته، حاولت بعد ذلك أن أكمل شذرات إلياس كانيتي، متجاوزا تلك المقدّمة الإشكالية، إلى باقي الشذرات، وتعال نحلق مع إلياس كانيتي في شذرته مع الطيور: "ترقص الطيور وهي تطير معا نحو أفريقيا، إيقاعاتها خفيفة وأكثر امتلاء من إيقاعاتنا، لأنها تصدر عن خبط الأجنحة، وهي لا تضرب الأرض بقدميها، بل الهواء بأجنحتها، الهواء الرفيق بها، أما نحن فان الأرض تمقتنا".

حتى عراك الطيور على الحبوب في عزّ أوقات الجوع يكون هيّنا، وكصراع حميد ما بين الكائنات على معيشتها واستمرارها فقط، لا حرقا لزرع أو رميا بالقنابل والصواريخ كما نرى ونشاهد في بقاع الأرض التي يدّعي حكّامها التحضّر والإنسانية والأدب الرفيع من خلف أسنان ناصعة البياض، "تمنحه الغربان فوق السنابل الصفراء أقوى احساس بالحياة". أحسّ أن الشذرة شعر لم يمتهن صاحبها كتابته، طاقة تعبيرية طالما رأيناها عند نيتشه، بلا نيّة لقول الشعر أو التنطّع براياته. وعند سيوران، رغم كامل سوداويته وعدم صلاحية العالم أصلا للسعادة فما بالك بالعيش؟ وتجلت أروع التجلي عند بيسوا في كتابه "اللاطمأنينة"، وغيره، شعر رأيناه في المشهد والتعبير بلا نيّة بلاغيّة في القول، فقد باتت الصورة هي بلاغة القرن العشرين، قرن الصورة بامتياز، فما أجمل الغربان رغم عزلتها وخصامها الظاهري للعالم من حولها.

"لقد احتفظ باحترام عميق لكبار السن: فهو يحب فيهم كل السنوات التي طالما لم يعشها بنفسه، وهو كلف بالأطفال، لأنهم يعدونه بكل السنوات التي لن يعيشها"، إدراك الزمن كماض ومستقبل في الوجوه وثناياها وملامحها وهم سنواتها أو بهجة طفولتها المنطلقة لما هو آتٍ من فرح لم يره ويتمسح بملامحهم كي ينال بركة السعادات الآتية، ذلك كله ليس بالفضيلة الأخلاقية، ولكن بمثابة بصيرة بعذابات الزمن وحلاوته أيضا، ما كان قد ولّى، وما يتشوق لرؤيته ولن يطاوله أبدا إلا بطاقة الخيال فقط، فضيلة أن تكون مهموما بزمان غيرك وتأملهم عن فرح ولعب مع زمن يتسرّب، ولا نمسك به أبدا ولا حتى في لحظات نعيشها وتتسرّب، هي الأخرى، كسابقاتها ولاحقاتها.

"يتأمل في وجوه الناس الذين يحبهم، ولكن من دون حضورهم ومن دون أعمالهم"، هل هو حضور صوفي في شذرات كانيتي دون أن يقصد ذلك أو يدّعيه، أم محبة لصفاء الأرواح دون وجود أجسادها وأعمالها وما تركته للعالم؟

"ذكي مثل جريدة يومية، يعرف كل شيء، وما يعرفه يتغيّر يوميا"، "تكتمل الطفولة كلما تقدم بنا العمر"، أما هذه الشذرة الغريبة والمحيرة جدا فقد كانت زاوية حيرتي مع ذلك الكاتب المحيّر والمربك معا، والحكيم أيضا كما يوصف مرارا، "استقبلتني بنت حفيدة الفلكي الكبير في بيتها، إنها تعيش بين التلسكوبات التي تلتقط نجوم السماء الجنوبية والشمالية، وجدتُ نفسي في البيت القديم، في مكتب ويلهلم هيرشلس. وبالضبط، قبالة دار سينما جديدة تقف أمامها صفوف من المشاهدين، كان من السهل عليهم رؤية الآلات والأوراق فوق مكتب هيرشلس، ولكنهم لا يعرفون أنه عاش هنا، بنت حفيدته تتمنى أن تبتلع الأرض بناية السينما هذه". رؤية مربكة، وإنْ لها وجاهتها أحيانا في حالات عدم ثقة النخبة في الجماهير والشعوب والكتل التصويتية العمياء في كل زاوية من زوايا العالم، فماذا يريد أن يقول الحكيم كانيتي عن الكثرة في العالم عدديا، هل الجماهير المسطّحة أمام دار العرض، أمام عيون بنت حفيدة العالم، وفي سائر ميادين العالم أصبحت حائلا مكروها في عيون بنت حفيدة العالم ووارثي النخب من البقية التي تحتفظ بأدواتها ومشاغلها ومشاعرها وأثر العلم عليها وسط جماهير تتهم دائما بالكتل العمياء المتحرّكة بفعل فاعل غامض أو ملتبس أو مجهّز سياسيا مع سبق الإصرار والترصّد، هل باتت الجماهير هكذا بعدما أصبح "العلم في معامله مجهولا للجماهير العريضة"، أو "بنت حفيدته"، غريبة في مكتبها أو منزلها معزولة عن العالم، وخصوصا بعد ما باتت الصورة بوابة الجماهير والحشود نحو الصناديق الانتخابية والمظاهرات وكرة القدم وملاعبها والأسواق والسوبر ماركت والحفلات التي يحضرها الآلاف، ولا تُعرف أسماء العلماء الا مصادفةً في برامج التوك شو كما يحدُث في بلادنا.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري