عن أزمة اللجوء السوري في لبنان
تطرح مسألة اللجوء السوري إلى لبنان جدالاتٍ، بسبب تناقضاتٍ قلّما تضطلع بلدان الاستقبال بها، حيال الأراء المتعدّدة، وبغياب سياسات مراقبة، غالبا ما تخالف مفاهيم العقلانية السياسية والحقوق الأساسية. يتجدّد الخطاب عن عودة اللاجئين السوريين، وتتوالى اجتماعات اللجنة الوزارية المكلفة متابعة "إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم بأمان وكرامة"، مع إبراز التقارير الصادرة عن منظماتٍ، بهدف تسويق رؤية لعودتهم. عرض لبنان خطته على الجانب السوري، في زيارةٍ قام بها وزير المهجّرين، عصام شرف الدين، إلى دمشق، وعاد منها بتطميناتٍ وانطباعات غامضة. وتعود التناقضات القوية إلى سياسة الدولة اللبنانية، وعدم قدرتها على تنسيق الأولويات المختلفة.
يطرح الجانب السوري خيارين أمام اللاجئين لا ثالث لهما، العودة إلى سورية، وقد صدر عفو عن العائدين، أو على كل من يرفض أن يذهب إلى بلد ثالث. إجراءات العودة التي تحدّث عنها وزير الداخلية السوري اللواء محمد الرحمون معروفة، ولكنها لم تأت بشيء عن آلاف من الولادات غير المسجلة في دوائر المفوضية الأممية (20 ألف ولادة سنويا)، ولا عن جوازات السفر منتهية الصلاحية. وفي ما خصّ اقتراح تشكيل لجنة تنسيق بين أطراف الأزمة، يلجأ الجانب السوري إلى التمييع، بحجة تحديد دورها وأهدافها، قبل الولوج إلى هذه الشراكة، فيما يقترح عودة منظمة من حيث إرادة الاستجابة إلى 420 نقطة على أرض يحدّدها مع الجانب الروسي، مشروطة بتوفر موارد أولية لها.
فاقمت من تعقيدات الأزمة مشاركة حزب الله في القتال، فأصبح عمليا في سورية دولة داخل الدولة، يمارس وظيفة الإكراه الاستراتيجي غير المباشر
تداعيات الملف الذي نشأ في خضم الحرب الدموية التي خاضها النظام السوري من دون توقف أشد تعقيدا وأكثر إثارة للقلق في لبنان، من نوع الجدالات القائمة بين الوزارات المعنية. احتاج الموقف اللبناني الرسمي، الذي جرى إعلانه في بروكسل العام 2017، متابعةً مستمرّة بطريقة منسقة مع المجتمع الدولي ومفوضية اللاجئين. يشكو لبنان من عدم مشاركته بالمعلومات والبيانات حين يتعلق الأمر بوجود عدد لاجئين صار موازيا لعدد اللبنانين المقيمين (نحو مليوني لاجئ). تشهد كل الدول رحيل لاجئين واستقبال لهم أو مرورهم بها، ولكن معظم هؤلاء يكونون خاضعين لضوابط تزداد صرامة عند الحدود. يسعى اللاجئ إلى البحث عن حياة أفضل، والحق بالحركة، أو يعبر عن خيبة أمله بالبلد الذي يعيش فيه، أو من الأزمات التي ازدادت في لبنان في السنوات الأخيرة إلى حد أنه بات من الصعب تأمين الدولة لمواطنيها ضماناتٍ تسمح بمواجهة مستقبل غامض، وتأمين حياة أفضل للسكان المستقرّين.
وقد عبرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن قلقها إزاء الممارسات التقييدية والتدابير التمييزية التي يجرى تفعيلها على أساس الجنسية. المعادلة الديموغرافية هي التي تتحكّم بالمسألة، وهي بمثابة بدء رد فعل كبير وسلبي، ما يشكل سياقا كاملا من فوضى يعبرها النظام اللبناني بصورةٍ لا رجعة فيها. المرجّح أن يحصل ذلك، أن يحدث التحوّل السكاني الذي لا يبقي لبنان ممكنا، مع تفككه، وتحوله إلى ركام من تجمّعات فقيرة (83%، لبنانين وسوريين)، وأطفال يعيشون في الإحباط والجوع ودمار الأحلام (92% نسبة الفقر بين الأطفال السوريين، تقرير "يونيسف" 2022)، فيتحول ملف إنساني إلى وديعة/ قنبلة موقوتة، وعوامل غير مباشرة لاهتزاز الاستقرار الأمني والسياسي، مع تعذّر سياقات الإصلاح المعيشي، أو التجنّد المدني ليدافع عن حقوق الإنسان.
لبنان من دول الجوار السوري التي نزح إليها كثيرون. لم تقدم السلطة اللبنانية على أي خطوة متكاملة لتنظيم عملية انتشار اللاجئين، وفاقمت من تعقيدات الأزمة مشاركة حزب الله في القتال، فأصبح عمليا في سورية دولة داخل الدولة، يمارس وظيفة الإكراه الاستراتيجي غير المباشر. الدولة اللبنانية غير مطلعة على أنشطته، ولا يمكن إقامة أي تغيير مهم على مستوى المعالجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، القاصرة عن تحقيق أهدافها مع أزمة عودة، تنخرط في عمق الصراعات الإقليمية والدولية، وتنتظر حلولا سياسية للأزمة السورية. هذا عدا عن أزمات داخلية صارت أسلوبا أساسيا لسلطة سياسية هي الأقل كفاءة.
يكتفي الجانب السوري بمواقف إعلانية، لا تتطور إلى دينامية، تصطدم بمطالبه التطبيعية مع المجتمعين العربي والدولي
يحتاج لبنان كما أوروبا إلى "إرشاد دولي للعودة". تقاعست الحكومة عن بناء خطة وطنية لمواجهة تدفق اللاجئين لنواحي شروط الانتماء، الاستقطاب، الوجود، الإيواء، الانتشار، الإنتاج، الاقتصاد. على الدول المانحة الغربية مسؤولية في السياسات المنتهجة، والاسترسال في إعفاء النظام السوري من المراقبة، تعميم حق العبور واللجوء، والاكتفاء بمواكبة هجرة انتشرت على نطاق واسع، كان يمكن تداركها بالحد من إجراءات القمع، وممارسة ردع الانتهاكات المرتكبة، وتوريط الدول المجاورة، (بلغت كلفة اللجوء السوري على الاقتصاد اللبناني 15 مليار دولار في تقرير البنك الدولي العام 2017). ولم يتدارك اللبنانيون جذريا المشكلة مع الانتشار العشوائي والسريع للمخيمات. ظهر بعضهم في مظهر الحليف للاجئين، فيما ساهمت السياسة الشعبوية والدبلوماسية الديماغوجية، رفضا لأحكام اتفاقية شؤون اللاجئين 1951، في فقدان السيطرة على الملف. التعبئة اليوم أكثر انفعالية، ولبنان عاجز عن تنظيم نفسه ومشكلاته الجوهرية، على عكس الأسس القانونية والإدارية في تركيا، الأردن، مصر، السودان، ألمانيا... اسكتشفت عوامل مساعدة في التعبير الجماعي ووسائل كفيلة بتنسيق الجهود للاندماج المجتمعي، والتنمية في المشاريع المتوسطة والصغيرة. في المحصلة، لم ينفجر الملف. هذا من حسن حظ لبنان، لكن هذا ليس شيئا خارقا بحد ذاته.
صعب توقع، لأسباب عدة، نتائج الحوار مع الجانب السوري لتأمين العودة إلى المناطق الآمنة (60%)، ويحكى عن عودة 15 ألف نازح شهريا. يكتفي الجانب السوري بمواقف إعلانية، لا تتطور إلى دينامية، تصطدم بمطالبه التطبيعية مع المجتمعين العربي والدولي، لا سيما أن لا كلفة مادية وقانونية/ معنوية على وجودهم في لبنان. البلد العاجز، لا سيما مع أخطار قد تأتي من فوضى تحوّل المخيمات أرضا للعنف، وتجارة المخدّرات والتهريب، ومخابئ للجماعات المتشدّدة، انعكاسا لاستمرار أشكال من الحرب والعنف في سورية، للعبة القوى والعجز الدوليين.
بلد مثل لبنان غير قادر على الوقوف على قدميه، ويفشل في وقف انهيارات مؤسّساتية، كيف يستطيع الإيفاء بالتزاماته الإنسانية والاجتماعية؟ لكن المنحى الأساسي سياسي بامتياز، يعتمد على القدرة على التحرّك معا مع المجتمعين العربي والدولي، ومن خلال تغيير في المقاربة القانونية الدولية لملف حقوق الإنسان، وتعزيز مسار الديمقراطية في سورية، وما يواكبها من وقف أعمال العنف، والاعتقالات التعسفية، والمحاسبة على جرائم وإبادات جماعية. عدم الاستقرار وانعدام الأمن يعودان، بشكل أساسي، إلى إدامة الحرب السورية.