عندما يهدم الاحتلال بيتاً فلسطينياً

09 نوفمبر 2020
+ الخط -

في سياق حديثه عن تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه وبيوته، قسرًا، قال الشاعر الفلسطيني، عبد اللطيف عقل، في مقابلة تلفزيونية، إنَّ الشعب الفلسطيني، حين فقَد، أفرادًا ومجموعاتٍ، في جزئه الأكبر، البيتَ، لم تُغْنْه كلُّ منازل الدنيا عن هذا البيت؛ لأن البيت هو الوطن، البيت هو الطفولة، (...)، البيت هو أوَّل إبداع فنِّي، (...) البيت أوَّل وعيٍ بين الطفل وأمِّه، البيت هو أوَّل مسؤولية الأب نحو ابنه (...). البيت، في النهاية، سابق لوجودنا، (...). البيت يقرِّر سلوكنا، أما المنزل فنحن نتحكّم به؛ نبنيه نبيعه نبادله، نمتلك أكثر من منزل، نتركه غير آسفين عليه". وفي المحصِّلة، رأى في البيت معادلًا للوطن، وبدون بيتٍ لا نستطيع أن نركِّب شيئًا، بخلاف المنزل العابر، والمؤقَّت.
وفي تعقيبه على هدم الاحتلال بيوت الفلسطينيين، قال هم لا يتصوَّرون أنهم حين يهدمون بيتًا فلسطينيًّا ينبني هذا البيتُ في النسيج النفسي الاجتماعي، والتركيب الروحي، لصاحب البيت المهدوم، ولشعبه وللأمَّة العربية كلِّها، وبالتالي. (...) فالبيت الذي هُدِم حِسيًّا لم يُهدَم على المستوى النفسي، وعلى مستوى الصمود، وعلى مستوى الزمن القادم، أصبح له أركانٌ أكثر ثباتًا.
يستدعي هذا الكلامَ ما قامت به قوَّاتُ الاحتلال الإسرائيلي، في الأيَّام القليلة الماضية؛ من هدم للبيوت في القدس والأغوار، وما تعزم عليه حكومة الاحتلال من هدم للمساكن الفلسطينية في الخان الأحمر، وهي السياسة التي دأبت عليها دولة الاحتلال، منذ نشوئها، في سعي حثيثٍ؛ لمحو كلِّ مظهر من مظاهر الوجود الفلسطيني؛ ماديٍّ، أو معنوي، ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى طمس الوجود الفلسطيني، وإحلال مظاهر الاحتلال محلَّها. ويقع البيت الفلسطيني، بما يعنيه، وبما ينتجه، وبما ينطوي عليه من تهديد مقاوِم، في صُلْب هذا الوجود الحيّ والمتوارَث. ودولة الاحتلال، وهي تدرك ما يعنيه البيت لأهله وساكنيه، تطمح إلى تصديع البناء النفسي، وتوهين النسيج الاجتماعي، قبل طموحها إلى إلحاق الخسائر المادية.

البيت الذي هُدِم حِسيًّا لم يُهدَم على المستوى النفسي، وعلى مستوى الصمود، وعلى مستوى الزمن القادم، أصبح له أركانٌ أكثر ثباتًا

هذا الهدم الذي يغلِّفه الاحتلال بذريعة "تدريبات الجيش"، أو بذريعة "البناء غير القانوني"، علمًا بأنه يضع أمام حاجة الفلسطينيين الملحّة والحيوية للبناء شروطًا تعجيزية، لقي إدانة من الجمعية العامة للأمم المتحدة التي دانت "هدم إسرائيل المباني الفلسطينية في حيِّ وادي الحمص، بقرية صور باهر (جنوبيَّ القدس الشرقية المحتلة)". وقال رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، إن قوَّات الاحتلال هدمت قرية حمصة البقيعة بالكامل، شرقي طوباس، في منطقة الأغوار.
ومنذ بداية العام الجاري (2020)، هدمت سلطات الاحتلال 689 مبنى في الضفة الغربية، بما فيها شرق القدس، وشرَّدت 869 فلسطينيًّا، وتركتهم من دون مأوى، وَفْق بيانات للأمم المتحدة. وأفادت منظَّمة التحرير الفلسطينية بأنَّ هدم المنازل الفلسطينية في القدس المحتلَّة التي يمضي الاحتلال في تغيير طابعها الديمغرافي بلَغ رقمًا قياسيًّا للعام الحالي، يعتبر الأعلى، منذ عشرين عامًا.
وظاهرٌ للعيان أنَّ التركيز الاحتلاليَّ في سياسة الهدم مسلَّطٌ، في هذه المرحلة، على القدس، لاستكمال تهويدها، وإخراجها من التفاوض، وكذلك على منطقة الأغوار؛ تمهيدًا لضمِّها، من دون أن يعفي ذلك سائر المناطق الفلسطينية المحتلة (من أبرزها مدينة الخليل) من هذه الأداة الاحتلالية التخريبية. وليس قطاع غزة عنّا ببعيد، وهو الذي ظلّ الاحتلال ينتهز أيّ فرصة في حروبه العدوانية المتكرِّرة على القطاع؛ لتهديم بيوته وعماراته السكنية، من دون السماح بإعادة إعمار ما هدّمته الحرب.

أفادت منظَّمة التحرير بأنَّ هدم المنازل الفلسطينية في القدس بلَغ رقمًا قياسيًّا للعام الحالي، يعتبر الأعلى، منذ عشرين عامًا

وبحسب فلسطينيين هُدِمت منازلهم في منطقة الأغوار، مثلًا، فإنَّ قوَّات الاحتلال التي وصلت كانت تمنح أصحاب البيوت المقرَّر هدمها عشر دقائق فقط؛ لإخلاء بيتوهم، قبل هدمها. .. بهذه الخفّة، أو الاستخفاف يتعامل الاحتلال مع البيت الفلسطيني، بكل ما ينطوي عليه عند أصاحبه من معانٍ يصعب التعبير عنها. وبتعبير الشاعر محمود درويش: "بدقيقة واحدة، تنتهي حياةُ بيتٍ كاملة (...) والبيوتُ تُقْتَلُ كما يُقْتَلُ سُكَّانها. وتُقْتَلُ ذاكرةُ الأشياء".
ويبقى البيت في فلسطين محتفظًا بأبعاده الاجتماعية الوطنية، على الرغم من عوامل حديثة، اقتصادية، عائدة، في غير قليلٍ منها، إلى الاحتلال، فقد كان البيت كثيرًا ما يتكوّن في أجواء جماعيَّة أشبه بالاحتفالية، ليس من أقارب صاحب البيت، فقط، ولكن، بالأخص، من أبناء الحيِّ، أو الحارة، حيث يتشارك أبناء الحارة، عمليًّا، في كلِّ مراحل البناء.
وكانت مِساحة البيت، ونمط بنائه أكثر رحابة، وخصوصيّة؛ حيث يحتوي غالبًا ساحة سماويَّة، ولا سيما في المناطق الريفية (كان معظم سكَّان فلسطين يقطنون الريف، في أوائل القرن الفائت)، وكان بذلك يسمح بتربية بعض أنواع من الماشية كالأغنام، مع تربية الطيور، وغيرها، إلى جانب زراعة أشجار مألوفة، كالتين والليمون والرُّمَّان واللوز، وغيرها، في نمطِ إنتاجٍ زراعيٍّ، أقرب ما يكون إلى الاكتفاء الذاتي الذي لا يتطلَّب نقودا كثيرة؛ فقليل منها يكفي لشراء الحاجيَّات المحدودة التي لا ينتجها أصحابُ البيت. مع مستوى عيشٍ يقوم على البساطة، والرِّضا، بروحيَّة أقل نهَمًا للاستهلاك والتنويع الباذخ.

الاحتلال لن يستفيد جذريًّا، حين يهدم البيوت، ما لم ينجح في تفكيك العلاقات الاجتماعية الباقية والمستندة إلى ذلك الحسّ الوطني الجماعيّ

وكان هذا النمط من البناء أقرب إلى تحقيق المتطلَّبات الصحية، حيث التعرُّض للشمس صباحًا، وضحى، وفي المساء. وكان أيضًا أقرب إلى تهيئة الجلسات الجماعية؛ من أبناء الحارة؛ رجالًا ونساء. و"كأنهم عائلة كبيرة"، وكان حصيلة هذا النمط من العيش الاقتصادي والاجتماعي أقرب إلى استدامة أسباب الصمود والنضال وتغذيتها، إذ كانت العائلة تتمتَّع بشكلٍ من "الحماية الاجتماعية"؛ فلو استُشهد الأب، فبالإمكان الحفاظ على الأسرة، برعايةٍ حثيثةٍ من الجَدِّ والأعمام، مثلًا، ولم يكن ثمَّة مخاوفُ كبرى من تَشظِّيها، أو دمارها. ولذلك لم يجد الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى، أواخر 1987، مثلًا، كبيرَ عناء في التضامُن والصمود، أمام إجراءات الاحتلال، كمنع التجوّل الذي كان يطول، أحيانًا؛ حتى يبلغ الشهر تقريبًا.
اليوم، أخذ يتغلَّب، في المدن، نمط بناء العمارة السَّكَنية، وامتدَّ ذلك إلى مناطق أقرب إلى الريفيَّة، وذلك لضِيق المِساحات؛ بسبب تحجيم الاحتلال للتوسُّع، وعدم السماح بتوسُّع الخارطة الهيكلية لتلك التجمُّعات السُّكَّانيَّة. ومع هذه التحوّلات، تراجعت علاقات الجيرة، وهذه بالطبع ليست ظاهرة فلسطينية خاصة. ومع هذا النمط من المساكن الذي يعكس مستوى معيشيًّا متواضعًا، إلى حدٍّ ما، غالبا، ما تنخفض نسبة الوِلادات، وأعداد الأبناء؛ من ثلاثة إلى أربعة، في المجمل، بعد أن كانت في الآباء، والأجداد تتراوح من ستة إلى تسعة، أو أكثر، بارتباطٍ أوثق بين الأقارب، وبنمط عائليٍّ أقرب إلى العائلة الممتدَّة؛ الأمر الذي كان يسمح بمقادير أكبر من التضامُن والتعاون الاقتصادي والمعيشي. ويحيل هذا التحوُّل إلى ما يمكن تسميتها المعركة الديمغرافية بين الفلسطينيين العرب واليهود الصهاينة، حيث ترتفع، نسبيًّا، نسبة المواليد في أوساط المتدينِّين الحريديم، إذ سبَق أنْ دلّت معطيات دائرة الإحصاء المركزية، في دولة الاحتلال، على أنَّ نسبة الولادة فيها تزيد على النسبة في الدول الغربية، وأنَّ هذا الارتفاع يعود، بالأساس، إلى نسبة الولادة الكبيرة في المستوطنات اليهودية، في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بشكل خاص، وكذلك في البلدات التي يعيش فيها متديّنون يهود.
وعلى الرغم من أنَّ العلاقات الاجتماعية المائلة إلى الفردية، وانخفاض نسبة المواليد، هما ظاهرتان عالميتان، إلا أنَّ تحقُّقَهما في فلسطين المحتلَّة، لا يساعد على تعزيز التشارك في مواجهة التهديدات الاحتلالية الوجودي، كما كان الحال على مدار عقود النضال، وكما شهدناه في الانتفاضة الأولى، حيث كان تلك الحاضنة الاجتماعية أرضيَّةً ناجزة للعمل النضالي والتنظيمي.
بالطبع، لا تقتصر عوامل الوحدة على عامل واحد، فالمشترَكات الجمَّة، والمتجذرّة؛ ثقافيًّا، ووجدانيًّا، فضلًا عن المُعايَنة اليومية والملموسة لخطر الاحتلال، لا تنفكُّ تغذِّي، في الحدّ الضروري، أسبابَ النضال والتضامُن العابرة للتغيُّرات. والاحتلال لن يستفيد جذريًّا، حين يهدم البيوت، ما لم ينجح في تفكيك تلك العلاقات الاجتماعية الباقية والمستندة إلى ذلك الحسّ الوطني الجماعيّ.