عندما يعلن الروس التعبئة بعد هجوم أوكراني معاكس
كل القراءات العسكرية والتحليلات الاستراتيجية ودراسات مراكز الأبحاث العلمية كانت تتنبأ بحدوث تغيرات دراماتيكية في مسيرة الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، إلا أن قناعات الروس كانت مختلفة أن الحرب تسير وفقاً للخطط المعدّة والمدروسة والمحسومة النتائج لصالح قواتهم التي تتقدّم (وفق قراءاتهم) نحو العاصمة كييف، وحتى لو كانت بطيئة لكنها مضمونة النتائج، وأنها ستحقق الأهداف العسكرية التي ستفرض على القيادة الأوكرانية قبول الشروط السياسية لموسكو.
الهجوم المعاكس للجيش الأوكراني الذي فاجأ الروس في محيط مقاطعة خاركيف شرقي البلاد، استطاع استعادة أكثر من 30 بلدة وقرية ومئات الكيلومترات المربعة كانت تحت سيطرة الجيش الروسي، إضافة إلى تحرير مدن بالاكليا وإيزيوم وكوبيانسك، والهجوم المعاكس عادة يُنفذ بعد امتصاص المدافع لزخم الهجوم المعادي عبر الأنساق الأولى في بنية منظومة الدفاع، ومن ثم انتقال الأنساق الثانية لشنّ الهجوم المضاد وإعادة الوضع إلى ما كان عليه أو تطويره بالعمق المعادي وتحقيق أرباح ميدانية.
لم تكن المفاجأة بالتأكيد سارّة لجنرالات الكرملين الذين سارعوا إلى الالتفاف على نجاح الهجوم الأوكراني بالإعلان عن انسحاب تكتيكي طوعي، غايته بناء نظام دفاعي جديد تقتضيه الضرورات العسكرية، وإعادة التموضع والانتشار بشكلٍ أقوى على حدود إقليم دونباس، ومع فشل تلك التبريرات، سارع الجيش الروسي لسرد رواية أخرى تتحدّث عن انسحاب روسي مقصود من المدن الأوكرانية الكبرى، ومن مسارح الأعمال القتالية المكشوفة والمفتوحة، بغاية جرّ الأوكرانيين إلى مواقع يسهل فيها تطويقهم وتدميرهم بالنيران المحضرة مسبقاً، ما يعني بالتكتيك العسكري جرّ الخصم إلى "منطقة القتل"، واصفة التصريحات الأوكرانية والتغنّي بالانتصار بأنها ليست إلا بروباغاندا إعلامية تهدف إلى شراء نصر مزيّف.
اعتبر الغرب التراجع الروسي ميدانياً فرصة سانحة للتشهير بفشل الجيش الروسي وإظهار عدم قدرته على مواجهة الهجوم المعاكس
لكن مفردات الانسحاب الروسي من محيط خاركيف الذي وُصف بالعشوائي والكيفي، والذي نجم عنه ترك سلاح أكثر من 15 ألف جندي روسي غنائم للجيش الأوكراني، أبرزته الصور الجوية الملتقطة، مع ترك الروس قاعدة جوية في معظم محتوياتها أيضاً، وبالتالي تكذيب الرواية الروسية، وهذا ما دفع كبار القادة الانفصاليين إلى الإقرار بالهزيمة، وزاد أحدهم بالقول: هناك أمور فظيعة نتحفّظ عن قولها حفاظاً على معنويات الجنود، لكن الرئيس الشيشاني قاديروف الذي تشارك قواته في الحرب إلى جانب الروس، كان أكثر جرأة بقوله إن "القوات الروسية ارتكبت أخطاء، وإذا لم تحدُث تغييراتٌ فسأتحدث مع قيادتها (يقصد وزارة الدفاع والرئيس بوتين) لأشرح لهم الوضع الميداني". وتابع: "أقرّ بأن الحملة العسكرية لا تسير وفق الخطة المرسومة".
اعتبر الغرب التراجع الروسي ميدانياً فرصة سانحة للتشهير بفشل الجيش الروسي وإظهار عدم قدرته على مواجهة الهجوم المعاكس. وقال مسؤول عسكري أميركي رفيع: "قرار روسيا التخلي عن معدّات عسكرية في أثناء الانسحاب يدل على فوضى في منظومة القيادة". وللمشاركة بالنصر، قال البنتاغون الأميركي: "زوّدنا أوكرانيا بمعلومات استخبارية خلال هجماتها الأخيرة في خاركيف وخيرسون".
رفع نجاح الهجوم المضاد من معنويات الأوكرانيين، خرج حاكم مقاطعة لوغانسك الأوكراني ليؤكد أن نجاح الهجوم نجم عن حسن التحضير للعملية، واستغلالاً لأخطاء الروس، وانخفاض معنوياتهم، وأن الجيش الأوكراني اعتمد تكتيكاتٍ حديثةً وبأسلحة متطوّرة، وأن العمليات القتالية ستحسم قريباً في خاركيف، ثم سيجري نقلها إلى خيرسون لتحريرها أيضاً، وأن التحرير سيشمل كل الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما فيها شبه جزيرة القرم التي احتلها الروس عام 2014.
على الجانب الروسي، نقلت مصادر أن الرئيس الروسي بوتين يشعر بحالة غضب شديد بعد الخسائر والانسحابات على جبهات أوكرانيا، خصوصا بعد تغييره قادة جبهاته في أوكرانيا مرّتين متتاليتين، وأنه رفض أخيرا استقبال وفد من جنرالات الجيش لشرح ظروف الحرب وأسباب الانسحاب، حتى وزير الدفاع شويغو، المقرّب من بوتين، أصبح مهدّداً بالعزل من منصبه.
بوتين والجيش الروسي اليوم في موقف لا يُحسدان عليه، لكن هذا لا يعني أن قدرات الروس انعدمت
أمام هذا الواقع المتدحرج سياسياً وعسكرياً، وبعد القرار المفاجئ لهيئة الأركان الروسية بسحب وحدات الفوج 217 المحمول جواً من سورية، ونقلهم إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا، يعلن الرئيس بوتين عن التعبئة الجزئية للحرب، ما يعني، وفق المخطط، زجّ أكثر من 300 ألف مقاتل روسي جديد في أتون الحرب على أوكرانيا، وكان سبقهم منذ أسابيع تدعيم الجبهات بـ 137 ألف مقاتل روسي، لكن ما يميز الخطوة الجديدة أن من سيجري زجّهم في المعارك مدنيون وليسوا على تماسّ مع السلاح منذ سنوات، وحتى كلام وزير الدفاع شويغو بتجنيد أصحاب الخبرات، فالكلام لا يتطابق مع واقع رجالٍ أنهوا خدماتهم العسكرية منذ سنوات، وفقدوا الحسّ العسكري، وفقدوا المعلومة، وفقدوا حتى أبجديات التكتيك والقتال. وبالتالي، هم بحاجة إلى معسكراتٍ لإعادة تدريبهم وتأهيلهم مع مراعاة الاختصاص. ومن ثم تقييم الفاقد من التشكيلات من أجل زجّ المقاتلين الجدد بالمكان المناسب. ويحتاج هذا العمل أشهرا ليست قليلة، وبالتالي لا أحد يظن أن قرار التعبئة سيكون الحل المنقذ لتدهور بعض جبهات الروس في أوكرانيا.
رغم تأثيرات الحرب على بلدانه، لدى الغرب كثير مما يمكن أن يقدّمه لتصعيب النصر الروسي وزيادة استنزافه
ولكن، برغم كل متغيرات مساحات النفوذ والسيطرة بين الأوكرانيين والروس، تبقى عين موسكو على الغرب، وما يمكن أن يقدّمه، لأن العوامل المؤثرة على مجريات الحرب تأتي من مستودعات الغرب، عبر عتادٍ متطوّر كان له الأثر الكبير بتدمير أكثر من 50 مستودعاً ومركزاً لإمدادات الجيش الروسي، توجد في الخطوط الخلفية في الجبهات الجنوبية والشرقية، بعد قصفها بصواريخ منظومة "هيمارس" عالية الدقة التي حصل عليها الجيش الأوكراني عبر الدعم الغربي، وما يقلق غرف عمليات الروس: ماذا لو رفع الغرب وتيرة إمداداته لتصل إلى عتبة طائرات الميغ 29 أو دبابات T72, T90 التي بمقدور الغرب تأمينها للجيش الأوكراني؟ ماذا عن منظومة باتريوت التي وعد بها الرئيس زيلينسكي من الغرب أيضاً؟ تضاف كل تلك العوامل المؤثرة على جبهات الروس إلى العامل الأخطر الذي يوفره الغرب للجيش الأوكراني، والمتمثل بسيالة المعلومات الاستطلاعية والاستخبارية التي تؤمّنها منظومات السطع الفضائية عبر الأقمار الصناعية التي وضعت لخدمة الجيش الأوكراني، وحرمت الجيش الروسي من عامل المفاجأة الذي يرفع كثيراً من أسهم النصر في المعارك، عدا أن تلك التقارير الاستخبارية لا توفّر فقط المعلومات عن الهجمات الروسية لتأمين تفاديها، بل استطاعت حصر نقاط الضعف بالتشكيلات الروسية وتفاديها، لاستغلالها بتحديد محاور الهجوم القادم ومناطقه، وهذا ما حصل عندما وُجهت أنظار الروس عمداً إلى مقاطعة خيرسون هدفا تضليليا على أنها المسرح القادم للهجوم الأوكراني المعاكس، ومُنع الصحافيون من الدخول إليها نوعا من زيادة الخداع، بينما كان الهجوم يُحضر وينسق ويعدّ على جبهات خاركيف، ووقع الروس في المصيدة.
بوتين والجيش الروسي اليوم في موقف لا يُحسدان عليه، لكن هذا لا يعني أن قدرات الروس انعدمت، وفقدوا القدرة على تأمين متطلبات المعركة والاستمرار، فلدى موسكو احتياطات استراتيجية كثيرة، وفي مقدمتها الأسلحة النووية التي عاد بوتين يهدّد بها، معتبراً أن روسيا تخوض حرباً مع الغرب، وليس مع أوكرانيا.
الغرب أيضاً، ورغم تأثيرات الحرب على بلدانه، لديه الكثير مما يمكن أن يقدّمه لتصعيب النصر الروسي وزيادة استنزافه، لكن الغرب يدرك تماماً أن حشر بوتين في الزاوية قد تنتج عنه قرارات مدمرة تقود إلى حرب كونية، ليس فيها منتصر، وستدمّر الجميع. وهذا ما ألمحت إليه رئيسة تحرير شبكة RT مارغاريتا سيمونيان، عندما تحدثت عن خيارين هذا الأسبوع لا ثالث لهما، وقالت: "يلامس هذا الأسبوع إما عتبة انتصارنا الوشيك، أو عتبة حرب نووية، لا يمكنني رؤية خيار ثالث". وكأن لسان حال الرئيس بوتين أراد القول عبر التهديد باستخدام الأسلحة النووية أن التهديد لا يعني الاستخدام بقدر ما يعني رسالة إلى الغرب تقول: ابحثوا عن حلٍّ يحفظ ماء وجه الجميع، وإياكم من جعلي كبش محرقة، فالقرارات عندها ستكون مؤلمة وقد تفاجئ الجميع.