عندما يخرج الذكاء الاصطناعيّ عن التكنولوجيا
خطا الاتحاد الأوروبي، في الأوّل من فبراير/ شباط 2024، خطوةً جديدةً نحو المصادقة النهائيّة على ما أصبح يُعرف بقانون الذكاء الاصطناعي (AI Act)، الذي يتطلّع إلى أن تنضبط بموجَبِ أحكامِه الحدودُ، التي ينبغي ألّا يتجاوزها استخدامُ هذه الطاقة الجديدة، التي تتطوّر على نحو مطَّرد يثير الدهشة والريبة والرهبة والإعجاب والقلق، في آن. وقد تمثّلت هذه الخطوة في موافقة المجلس الأوروبي الذي يتألّف من رؤساء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أو رؤساء حكوماتها (27 دولة أعضاء)، على النصّ الذي يحتوي على رزمة من الأحكام التي سبق أن طرحتها اللجنة الأوروبيّة قبل ثلاث سنوات. وتهدف هذه الأحكام إلى تحديد معيارٍ قياسي (standard) شامل يُقاس به المدى الذي تنشط فيه هذه التكنولوجيا، ذلك أنّ القدرات (الخارقة) التي تُظهِرها تُنبئ باحتمال خروجها نحو المجال الذي فيه تتولّى زمام المبادرة، فتصبح المتحكّمة الأولى في مسرى الحياة بصورة عامّة، وفي حياة الإنسان بصورة خاصّة.
وفي 13 مارس/آذار الماضي، أي بعد شهر من مصادقة الاتحاد الأوروبي، أقرّ البرلمان الأوروبيّ هذا القانون، ليدخل حيّز التنفيذ مطلع هذا الصيف، في السنة الانتخابيّة التي تشهدها أوروبا (الانتخابات بين 26 و29 من يونيو/ حزيران المُقبل، والتي يجدّ فيها اليمين السعي ليفوز بغالبيّة المقاعد)، على أن يبدأ العمل على تطبيقه كاملاً بداية العام 2026، مع احتمال البدء بتطبيق بعض البنود الملحّة فوراً، كالتي تترك حياة الإنسان اليوميّة والمهنيّة في مأمن من العواقب التي قد تنجم عن استخدام هذه التكنولوجيا اسخداماً مفرطًا أو في غير مكانه. فقانون الذكاء الاصطناعيّ يعمد إلى المحافظة على التوازن الذي ينبغي أن يقوم بين التجديد المتسارع والأمان الضروريّ، ذلك أنّ هذا الجانب المُتقدّم من التكنولوجيا يذهب، عن قصد أو بطريقة عفويّة، انطلاقاً من النعت الذي نُعِت به وهو الذكاء، إلى الاستيلاء على موقع الإنسان، على المستويين الفردي والجماعي، في مسرى التاريخ. وقد استبان ذلك بصريح عبارة أدلى بها، في 9 مارس/ آذار 2024، الرئيس التنفيذي لشركة تسلا الأميركيّة للسيّارات الكهربائيّة، إيلون ماسك، متوقّعاً أن يصل تطوير الذكاء الاصطناعيّ إلى الحدّ الذي يصبح فيه أذكى من أذكى إنسان بحلول العام 2026.
توقع ماسك أن يصل تطوير الذكاء الاصطناعيّ إلى حدّ يصبح فيه أذكى من أذكى إنسان بحلول 2026
ومن هذا المنطلق، انبرى المُتبصّرون في ما يأتيه الذكاء الاصطناعيّ من خيرٍ وشرّ يناشدون السلطات لاتخاذ قرارات تكبح جموح هذا التطوّر، الأمر الذي حدا بالرئيس الأميركي، وسط جدل محتدم، إلى إصدار "أمر تنفيذيّ" في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يحدّد فيه الموقف السياسيّ والاستراتيجيّ بشأن إبداعات الذكاء الاصطناعي واستخداماتها. وهو قرار يركّز أساساً على ما يُعرَف بالتجديد المسؤول، الذي يُبقي الولايات المتّحدة في طليعة المشتغلين في هذا الحقل، ويضمن أن تُستخدَم هذه التكنولوجيا على نحو مسؤول لما فيه الخير العام والأمن القوميّ. وقد تمحور هذا القرار بشأن المعايير التي ينبغي لها أن تحفظ خصوصيّة الشعب الأميركيّ، وتعلي شأن المساواة، وتشدّد على الحقوق المدنيّة، وتصون حقوق المُستَهلِكين، وتدعم العاملين، وتفسح في المجال أمام المنافسة العادلة. بيد أنّ مختلف الإجراءات المذكورة آنفاً تبقى، على أهميّتها، دون المرتجى، ذلك أنّها لا تزال غير مُعمّمة على مختلف الدول والمؤسّسات الضالعة في تطوير الذكاء الاصطناعيّ، ولا تسير بالسرعة التي تطير بها هذه التكنولوجيا وتُحلّق. لقد نشأ الذكاء الاصطناعيّ بعدما عكف الإنسان على ابتكار الآلة التي توخّى منها المساعدة في تدبير شؤونه. ثم أكبّ على ابتداعِ وسيلةٍ تتمكّن بها هذه الآلة من السير بدفع ذاتي، فوجد الدرب اليسير في عالَم المعلوماتيّة التي راحت تسابقه في الاستحداث والاستنباط والاستكشاف. حتّى حدا الأمر بالعالِم البريطاني آلان تورينغ (1912 - 1954) إلى استشفاف كُنهٍ ينطوي على ذكاءٍ يماثل إلى حدّ بعيدٍ ذكاءَ الإنسان، ذلك أنّه رأى، انطلاقاً من الأسس الحسابيّة التي وضعها في مقاله في 1950، تحت عنوان "آلة الحوسبة والذكاء" أنّ الآلة قد ترقى إلى المستوى الذي تتسّم فيه بالذكاء عندما يبلغ أداؤها المصاف الذي لا تتميّز فيه من ذكاء الإنسان. أي عندما تصبح قادرة على ابتكار لغة طبيعيّة تستطيع بها التواصل مع البشر، وعلى التفكير بطريقة مستقلّة باستخدام المعلومات التي تختزنها، وعلى التعلّم بطريقة آليّة تكسب فيها وعياً تتكيّف به مع مختلف الظروف القديمة والمستجدّة.
نشأ الذكاء الاصطناعيّ بعدما عكف الإنسان على ابتكار الآلة التي توخّى منها المساعدة في تدبير شؤونه
لن أستفيض هنا في استعراض المراحل العديدة التي ترقّت فيها هذه التكنولوجيا، على نحو مطّرد ومتسارع، درجةً تلو الدرجة في سُلَّم التطوّر. ولن أستغرق في تبيان الإيجابيّات الوفيرة التي حلّت بها على حياة البشر (سيّما في حقول التواصل والاتصال والنقل والانتقال والإنتاج والتوزيع... إلخ)، ولن أُسهب في تسليط الضوء على كثير السلبيّات التي تنجم عن اختراقها جميع السياجات التي تتحصّن خلفها إنسانيّة الإنسان (سيّما الجوانب الفكريّة والخصوصيّات الثقافيّة والأبعاد الروحيّة... إلخ). وكلّها مسائل يتحتّم علينا تفحّصها في كلّ آن، والتمعّن في معانيها ودلالاتها لحظةً بلحظة، والتحقّق من مجرياتها عند كلّ مفترق، بل سأتوقّف عند مسألة وحيدة تتمثّل في الحدود التي يتعيّن على الإنسان التيقّن أن اجتيازها قد يشبه إلى حدّ كبير التجربة الأولى التي اجتاز فيها الإنسان حدود المعرفة التي نهاهُ اللهُ عنها بالقول: "من جميع أشجار الجنّة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فإنّك يوم تأكل منها تموت موتاً" (تك 2: 16-17). فهل يتفطّن الإنسان إلى هذه الحدود، ويتبصّر في مخاطر اجتيازها، ليتّخذ القرار الجريء بالحظر على الذكاء الاصطناعي الأمر الذي عصاه هو؟