إعندما يجدّد إخفاق الإصلاحات في كوبا الاحتجاجات
"لم يعد النموذج الكوبي يصلح لنا بعد الآن"!.. هكذا قال فيديل كاسترو في عام 2010، ولاحقاً قال شقيقه الرئيس السابق راؤول "إما أن نغيّر كوبا أو أن الثورة في خطر". يبدو أن أسرة كاسترو كانت على وعيٍّ عميقٍ بمشكلات كوبا، وأن الاهتزازات التي تعرّض لها نظامها الاشتراكي، سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008، تستدعي التغيير في هذه الجزيرة المهمّشة أميركياً، وتفرض الأخيرة عليها حظراً كاملاً منذ نجاح ثورتها 1959. كان للحظر دورٌ كبيرٌ في إعاقة التغيير، ولكن السبب الأساسي هو السياسات التنموية الرديئة للنظام الاشتراكي الذي شاخ كثيراً، وصار لا بد من دفن الميت قبل أن تتفسّخ الجثة.
هل ينجو نظام الرئيس الجديد، ميغيل ديازكانيل، الذي تولى الحكم 2018، وتولى رئاسة المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي المنعقد في 2021، هل ينجو من الخيار الأمني والعسكري، الذي انتهجته أنظمة مستبدّة كنظامه في مواجهة الشعوب، كما السوري والليبي وسواهما؟ ما يحدث في كوبا من تظاهراتٍ امتدّت إلى أكثر من عشرين مدينة، وتحت سقف شعاراتٍ تنادي بالخبز والحرية ورحيل الديكتاتورية، وسواها، يستدعي تلك المقارنات، حيث كانت الشعارات تقريباً ذاتها في بلادنا!
منذ عام 2010، وقبل أن يتنحّى فيديل عن الحكم في 2006 بسبب المرض، واستلام أخيه راؤول، وهو من رجالات الثورة، بدأت كوبا مسيرتها نحو الانفتاح الليبرالي، والتغيير في سياسات الدولة الاقتصادية، لكنها لم تقترب من التغيير في النظام السياسي الذي يخضع للحزب الشيوعي الكوبي، ويرفض الحريات العامة، وأية أشكال من التعدّدية السياسية.
مشكلة كوبا في غلبة الطابع الخدمي على الاقتصاد (75%)، بينما لا يشكّل قطاع الصناعة نسباً ذات معنى. وفي الصناعة، هناك صناعة النيكل وقصب السكر، ويعانيان من شحّ في الوقود وتعطل الماكينات. ويشار هنا إلى أن الأزمة الكبيرة في فنزويلا أجبرت النظام هناك على تخفيض كميات الوقود المرسلة إلى كوبا وكانت بأسعار خاصة. وكذلك يمكن تخيّل مشكلة الحصار الأميركي الطويل، والذي يعزل الجزيرة كلياً عن العالم الخارجي، العزل الذي لطالما رفضته بيانات الأمم المتحدة ودول كثيرة، والمنظومة الاشتراكية التي انهارت، وأصبحت الجزيرة بذلك محاصرة أكثر فأكثر.
كان فيديل كاسترو شجاعاً في التأكيد أن الفشل في القطاع العام كبير، ويجب التخلي عن خمسمائة ألف عامل فيها، لصالح العمل في القطاع الخاص
مشكلة النظام الاشتراكي هناك في موقعه الجغرافي، حيث تعتبرُ أميركا كوبا جزءاً من حديقتها الخلفية اللاتينية، ولا تسمح بنجاحاتٍ كبرى فيها، كي لا تنتقل التجربة إلى دول أخرى، وقد حدث ذلك بشكل كبير، حيث ظل اليسار في أميركا اللاتينية قوياً، وما يزال قوياً، على الرغم من موجات التراجع والصعود، وهذا يتعلق برداءة السياسات الليبرالية، وتجذّر المشكلات الاقتصادية والسياسية في تلك القارّة.
ليست القضية فقط في الموقع، وهناك الخطأ الكبير في الاعتماد على قطاع الخدمات. عكست ذلك تجارب فيتنام والصين، فقد شكّلت الصناعة القطاع الأساسي في الاقتصاد، وفي النهوض بالبلاد، بعد نجاح الثورات فيها، وهذا ساعد تلك البلاد على نجاحها في الانفتاح الاقتصادي نحو الليبرالية، الاقتصاد الحر، ولم تتراجع عن احتكارها النظام السياسي، وظلّ للدولة دورٌ كبيرٌ في الاقتصاد. مشكلة كوبا أنها فشلت في اعتماد الاقتصاد الرأسمالي، ولم تسمح لها بذلك أميركا، بالتالي لا بد للأزمة الاقتصادية والسياسية المتصاعدة من أن تنفجر، وكانت الاحتجاجات الشعبية في الأيام الأخيرة، والتي ستلقى بالضرورة تأييداً من الإدارة الأميركية، ورفضاً من الإدارة الروسية، وكل الدول الاستبدادية، وكذلك من دولٍ لاتينيةٍ كثيرة، كالمكسيك وبوليفيا وفنزويلا ونيكاراغوا وسواها.
ستظل كوبا تعاني من غياب الاقتصاد الصناعي، وهذا يتعلق بخطأ السياسات الاقتصادية منذ نجاح الثورة
فشلت كوبا في تطوير صناعة قصب السكر، فلم تستطع الوصول إلى إنتاج سنوي يعادل عشرة ملايين طن كما كان نظام فيديل كاسترو يطمح، وفشلت في الإصلاح الزراعي، فتراجعت عن بعض سياساته، وسمحت للقطاع الخاص بالاشتراك بنسب كبيرة؛ أربعة ملايين فدان من الأراضي، وكذلك فشلت في تأمين فرص عمل للداخلين في سوق العمل من جديد، بل وعكس ذلك فقط، كان فيديل كاسترو شجاعاً في التأكيد أن الفشل في القطاع العام كبير، ويجب التخلي عن خمسمائة ألف عامل فيه، لصالح العمل في القطاع الخاص... إذاً، هناك جملة إصلاحات اقتصادية وإدارية انتهجتها كوبا بدءاً من 2010، وتضمّن دستورها الجديد 2019 تلك الإصلاحات، والتي غيّر فيها الحزب الشيوعي فقرة "بناء نظام شيوعي" إلى "بناء نظام اشتراكي" واعترفت لأول مرة دستورياً بالملكية الخاصة، وتبنّت بعض الأفكار الرأسمالية كإدارة مشاريع اقتصادية صغيرة، والسماح بالاستثمار الأجنبي، وحرية الإنترنت، وسياسياً لم تتراجع عن نظام الحزب الواحد، ولكنها استحدثت منصب رئيس الوزراء، ووضعت حداً للرئاسة بدورتين، وألا يزيد عمر الرئيس عن 60 عاماً حين توليه المنصب، كما لم يعد مسموحاً لرئيس الدولة أن يكون رئيساً لمجلس الدولة أو رئيساً لمجلس الوزراء.
تأخّر تبنّي الأفكار السابقة التي اعتمدتها الإدارة الكوبية، وكان يفترض أن تنتهجها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. وهي أفكارٌ تتناول تغييراتٍ مهمة في الاقتصاد، ولكنها هامشية في الشق السياسي، حيث أغلبية الدول تعتمد على الفصل بين الرئيس ورئيس مجلس الوزراء وسواه.
ستظل كوبا تعاني من غياب الاقتصاد الصناعي، وهذا يتعلّق بخطأ السياسات الاقتصادية منذ نجاح الثورة، وكذلك بسبب الحظر الأميركي على أية علاقات اقتصادية مع محيطها أو معها هي بالذات. خفّف الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما، من الحظر على كوبا، وحذف اسمها من الدول راعية الإرهاب، وزارها، وقبله زارها بابا الفاتيكان في 2012. وقد ساهم ذلك كله نسبياً في تخفيف الأزمة الاقتصادية، وسمح بعلاقات تجارية أفضل، والبدء بالتفكير في كيفية إطلاق مشاريع اقتصادية كبيرة، كمشروع تطوير الميناء، ولا سيما مشروع ميناء مارييل، بمساعدة من الحكومة البرازيلية. ولكن الرئيس ترامب سرعان ما تراجع عن تلك السياسات، ووسّع من دائرة العقوبات الاقتصادية لتصل إلى 243 عقوبة، وكان يُطلق على كوبا وفنزويلا ونيكارغوا الشياطين الثلاثة؛ وبالتالي اشتدّت الأزمة مجدّداً.
ليس الوضع في كوبا سهلاً هذه المرّة، فالشعب في الشارع، والحكومة تتهيّأ للرد العنيف
كان فخر أيديولوجية النظام الكوبي القضاء على الأمية، وتأمين الرعاية الصحية، وارتفاع عدد الأطباء، وافتتاح مراكز كثيرة للبحوث العلمية، وهناك فائض كبير في الشهادات العالية، وهذه قضايا واقعية. شكل الأطباء العاملون في الخارج مصدراً مهمّاً للعملة الصعبة، وكذلك السياحة التي أوقفها ترامب عبر العقوبات، والذي أغلق مكاتب وكالات ويسترن يونيون، وكانت تؤمن إيصال الأموال إلى الكوبيين من أقاربهم في الخارج.
هناك أسباب أصبحت معلنة للاحتجاجات؛ الأزمة الاقتصادية (تراجع الاقتصاد بنسبة 11% مقارنة بالعام الماضي) وانتشار وباء كوفيد 19 بشكل كبير، على الرغم من الحديث عن إنتاج مضاد محلي له (لقاح عبد الله)، وأثر الإنترنت الذي أتاح فهماً عميقاً للكوبيين، ووسّع مداركهم عن حقوقهم وواجباتهم، وأعطاهم أمثلة لا حصرية عن الحياة السياسية الديموقراطية والرفاهية وغياب الديكتاتورية. سمح دور الإنترنت، كما حالة الدول العربية في عام 2011، بتنظيم الشباب مظاهراتهم وضبط شعاراتهم والتوافق على أفكار سياسية مشتركة، وإيصال أصواتهم إلى العالم، وفضح آليات الحكومة في الاعتقال والقمع. أبرز المطالب تخصّ الأوضاع المعيشية السيئة والحريات وإزالة الديكتاتورية والأبوية وإنهاء حكم الحزب الواحد.
سارعت الحكومة والرئيس إلى الرد على الاحتجاجات، بالاعتقال والقمع الشديد، والدعوة إلى مسيرات مؤازرة للنظام، ورفعت شعاراتها "يعيش فيديل" و"تعيش كوبا"، وتمت دعوة راؤول كاسترو، مع قادة آخرين، وهم من خارج المكتب السياسي للحزب، إلى الاجتماع العاجل. إذاً، ليس الوضع في كوبا سهلاً هذه المرّة، فالشعب في الشارع، والحكومة تتهيّأ للرد العنيف. والسؤال: هل تتجه كوبا نحو الخيار التونسي أم المصري أم السوري والليبي؟ ومع ذلك، لكلِّ بلدٍ خصوصيته.