عندما تُغضب أميركا إسرائيل
بعد أسابيع من التهديد، اختارت الولايات المتحدة تعليق إرسال شحنة أسلحة، قنابل تحديداً، إلى إسرائيل، في ظلّ الخلاف بشأن الاجتياح الإسرائيلي لرفح، وبالتزامن مع التعنّت الإسرائيلي في ملفّ مفاوضات وقف النار وتبادل الأسرى. ترافق التعليق مع حرص أميركي، من الرئيس جو بايدن، مروراً بأكثر من مسؤول، على تأكيد أنّه لا تراجع في الالتزام بأمن إسرائيل، ومع إقرار بايدن نفسه (مرّ مرور الكرام) بشراكة واشنطن في جرائم قتل المدنيين في غزّة، جراء استخدام أسلحتها في الحرب على القطاع.
منذ اليوم الأول للعدوان، مدّت الإدارة الأميركية جسراً جويّاً لتزويد إسرائيل بشحناتٍ لا تنتهي من الأسلحة لإبادة الفلسطينيين، وبعضها استخدم في تنفيذ أبشع المجازر، ولم يشكلّ ذلك فرقاً لدى إدارة بايدن طيلة الفترة الماضية. لذلك، بقدر ما يسود تساؤلٌ في دولة الاحتلال بشأن توقيت القرار الأميركي اليوم، بقدر ما يُطرح الأمر أيضاً في الإعلام الأميركي، وتذهب بعض التحليلات إلى الغوص في دلالات القرار الآنية ومتوسّطة المدى.
لم تخرج الردود الإسرائيلية حتى أمس عن المُتوقّع، موجة متواصلة من الردح السياسي للإدارة الأميركية، بل والذهاب نحو الدعوة إلى اجتياح رفح بشكل كامل، وتفجير غزّة بأسلحة غير دقيقة. لكنّ هذه المواقف صدرت عن مسؤولين اختاروا عدم ذكر أسمائهم. وإذا كان بنيامين نتنياهو وبعض الوزراء يحرصون على عدم تصدّر موجة الردح هذه، حفاظاً على خط الرجعة، فإنّ وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، لخّصت قبل أيام رؤية هذا المعسكر للعلاقة مع واشنطن بالقول إنّ "الولايات المتحدة لا تلبّي الحد الأدنى الذي يتطلّبه ذلك"، مضيفة "إنّها لا تستحق اسم صديق لدولة إسرائيل".
ينطوي القرار الأميركي، الذي لم يكن مفاجئاً لإسرائيل، بعدما مهّدت له إدارة بايدن خلال الأيام الماضية، على رسائل عدّة، صحيح أنّها تبدأ من رفح، وضرورة أن تراعي العملية العسكرية، التي يزعم الاحتلال أنها ضرورية في المدينة في سياق عدوانه على القطاع، وجود مئات الآلاف من المدنيين فيها، بعدما هُجّروا إليها ملاذاً أخيراً داخل القطاع، بعد سبعة أشهر من الإبادة الكاملة في حقّهم، لكنها لا تقتصر على ذلك. التمادي الإسرائيلي في العدوان، بما في ذلك الاستعراض في رفح خلال الأيام الماضية، وتشديد خنق القطاع، عبر منع إدخال أي مساعداتٍ من معبري رفح وكرم أبو سالم، ترافق مع تعنّت في إتاحة الفرصة أمام أي اتفاق يُمكن أن يُفضي إلى وقفٍ ولو مؤقتٍ للعدوان، ويتيح تبادلاً للأسرى والمحتجزين، رغم كلّ الضغوط التي مورست على حركة حماس، وقادت إلى تقديم الأخيرة تنازلاتٍ عديدة من أجل تمرير الصفقة. وتسود قناعة في أروقة القرار الأميركي بأنّ المُحفّز الأول وراء الإفشال المُتكرّر للمفاوضات يرجع إلى حسابات داخلية لبنيامين نتنياهو، لكنّه يتّخذ من مواقف بعض الوزراء، وتحديداً تيار اليمين المُتطرّف، ذريعة يوظّفها خدمة لمصالحه.
وما كان يُمكن القفز عنه في المرحلة الأولى من الحرب لم يعُد صالحاً من وجهة نظر الإدارة الأميركية حالياً، لا سيّما أنّ تداعيات العدوان لم تعد تقتصر على إسرائيل وقطاع غزّة ولبنان والبحر الأحمر، أي لم تعُد في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل إنّ الارتدادات بلغت الداخل الأميركي، الذي يعيش منذ أسابيع على وقع حراك طلابي غير مسبوق منذ حرب فيتنام مناهضٍ للحرب، ما يعقّد الوضع أمام إدارة بايدن، مع اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، لا سيّما بعد القمع الذي قوبلت به الاحتجاجات، وهو ما من شأنه أن يخصم مزيداً من رصيد بايدن، الذي نالت منه حرب غزّة، خصوصاً عند فئة الشباب، نتيجة انحيازه للاحتلال وحرب الإبادة.
لا يزال تأثير القرار الأميركي على استكمال مُخطّط اجتياح رفح أو المفاوضات غير واضحٍ، لكنّ الأكيد أنّ الرسالة الأميركية، مهما حاول قادة إسرائيل التقليل من شأنها، قد وصلت إلى المستوى السياسي قبل العسكري.