عندما تلحّ واشنطن على تطبيع إسرائيلي سعودي

20 اغسطس 2023
+ الخط -

واضح أن تحقيق تطبيع إسرائيلي سعودي هو شاغل الإدارة الأميركية الرئيس في المنطقة، بل تبذل واشنطن جهوداً قصوى، ليس بالضغط على السعودية فحسب، بل أيضاً على قيادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس للتساهل مع شروط قدّمتها الرياض مقابل "تطبيع جزئي" مع الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى محاولة إقناع اليمين الإسرائيلي بعدم معارضة مطالب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابل التطبيع.

تبدو "الشروط السعودية" تعجيزية، وقد يكون هدفها لجم الاندفاع الأميركي، إذ إن اتفاقية تطبيع تحالفية تحوي مخاطر كثيرة للمملكة، نتيجة مكانتها العربية والإسلامية، ومخاوف حقيقية من ردّة فعل داخلية، لكن واشنطن تحاول تحقيق أكثر من هدف استراتيجي. وقد تقبل ببعض الشروط، إذا استطاع البيت الأبيض تجاوز المعارضة الشديدة لها في الكونغرس، ففي السنة الأخيرة لم يعد الهدف الأميركي دمج إسرائيل في المنطقة فحسب، بل أيضاً إبعاد السعودية عن الصين والعلاقات مع طهران، بعد أن فاجأت بكين واشنطن بنجاحها في بدء حوار مستمرّ بين السعودية وطهران.

إلى مدة قصيرة، كانت المطالب السعودية تعدّ مرفوضة تماماً في واشنطن، فأهمها السماح لها ببدء برنامج نووي سلمي، وإمدادها بأسلحة، والأهم ترسيم اتفاقية دفاع تُلزم حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالدفاع عن المملكة في حال تعرّضها لخطر، وقد يكون الأخير الأكثر صعوبة، إذ يتطلب ذلك موافقة دول أوروبية وتحديد هوية أعداء السعودية. وهنا المفارقة، فبالنسبة إلى واشنطن، الأعداء هم إيران والصين وروسيا، إيران تحديداً، فإبقاؤها كالتهديد الوجودي في الخطاب العربي الرسمي ضروري لدمج إسرائيل وإنهاء الحقوق الفلسطينية في فلسطين.

كل خطوة تطبيعية مؤشّرٌ خطيرٌ لتدحرج سياسي، قد يكون من الصعب العودة عنه

يقول مسؤولون إسرائيليون وأميركيون إن الوصول إلى اتفاقية قد يأخذ مدّة تتجاوز ولاية الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، فهناك بعض الفهم للتردّد السعودي، لكن أميركا تركّز أيضاً على سياسة "الخطة"، وسمحت الرياض باتفاقيات إسرائيلية - سعودية عدة بين شركات إنتاج ترفيهية وتكنولوجية (شركتان إسرائيلية وسعودية للطاقة، واتفاقية تعاون بين محطة أم بي سي وشركة بارتنر الإسرائيلية)، قد تعتقد الرياض أنها تنازلات بسيطة، لكنها في نظر أميركا وإسرائيل تمهّد لتطبيع شامل، ليس بين الدول فحسب، بل باتجاه تطبيع شعبي وثقافي، أي إن الخرق حدث، والتقليل من أهميته وتداعياته خطأ استراتيجي، إلا إذا كان صانع القرار يحاول تهيئة الرأي العام السعودي للتطبيع التدريجي مع إسرائيل.

كل خطوة تطبيعية مؤشّرٌ خطيرٌ لتدحرج سياسي، قد يكون من الصعب العودة عنه، فدول عربية عديدة لم تدخل في اتفاقيات تطبيع، لكن لبعضها علاقات لا تبتعد عن كونها من أشكال التطبيع تحت ضغوط أميركية لا تنتهي. وليس هدف الحديث هنا التركيز على السعودية دون غيرها، بل لأن الجهود الأميركية تزداد، خصوصاً أن واشنطن تعتبر السعودية "الجوهرة" في عقد التطبيع، وأن كل الدول العربية "ستتهاوى"، وتنغمس وتتعمّق بالتطبيع في حالة قبول السعودية باتفاقيات، ولو "جزئية"، من وجهة نظر أميركية، فهي البوابة الواسعة إلى العالمين، العربي والإسلامي، لأن ما تريده واشنطن هو انضمام قيادة الرياض للاتفاقيات الإبراهيمية التحالفية، أي قبول الادعاءات الإسرائيلية بحقهم على كل أرض فلسطين، تمهيداً لإنكار الحقوق الفلسطينية الوطنية الحقوقية.

يجب التوقف هنا عند نقطتين: محاولات إدارة بايدن إقناع قادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس بقبول المطالب السعودية تطور لافت. وموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الإيجابي من بعض المطالب السعودية والترابط المهم بين البعدين، فوفقاً لتقرير في صحيفة نيويورك تايمز، نشر في 17 أغسطس/ آب الجاري، اجتمع مسؤولون في البيت الأبيض مع قيادات الحزب الديمقراطي في الكونغرس التي ترفض بشكل قطعي السماح للرياض ببناء مفاعل نووي لأهداف مدنية، إذ لا تثق بنهاية العداء السعودي لإسرائيل، "وتخشى" من أن تسعى السعودية إلى تخصيب اليورانيوم لصناعات عسكرية، وتتذرّع بسجل السعودية في خرق حقوق الإنسان، في نفاق واضح، إذ ليس لدى هؤلاء من داعمي إسرائيل الذين لا يرون أي مشكلة في نظام الفصل العنصري الصهيوني، ورقة الوطن الفلسطيني وتشريد شعبه.

تذكُر تقارير أن نتنياهو يخالف القيادات الأمنية الإسرائيلية التي تحذّر من امتلاك السعودية أسلحة متطوّرة وبناء مفاعل نووي

ازدادت حدّة المعارضة في الكونغرس منذ التصالح السعودي الإيراني، ويرى محللون ومسؤولون أميركيون، في تفاهم أميركي مع محمد بن سلمان، توطئة لدخول السعودية في اتفاقية تطبيع مع إسرائيل، وبالتالي إبعاد السعودية عن إيران والصين، وبل وروسيا أيضاً. وقد يأتي الموقف الحاسم من موافقة إسرائيل، فهذه قد تجني أكثر من فائدة، وهذا ما التقطه نتنياهو الذي تذكُر تقارير مختلفة أنه يخالف القيادات الأمنية الإسرائيلية التي تحذر من امتلاك السعودية أسلحة متطورة وبناء مفاعل نووي، حفاظاً على الهدف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي بالحفاظ على تفوّق أمني وعسكري إسرائيلي في المنطقة. ولكن لنتنياهو حسابات ثانية، فهو تاريخياً أكثر المحرّضين شراسة، محلياً وعالمياً، على تصوير إيران العدو الوجودي في المنطقة، فهو يؤمن بأن ترويج فكرة أن إيران وحش المنطقة سيزيد من تعاطف العالم مع إسرائيل، ويغض النظر عن جرائمها، إضافة إلى أن ذلك يساهم في تشويه الوعي العربي، وتحويل إسرائيل من عدو إلى صديق للعرب وشعوب المنطقة، فقد أصابه ذعر من اللقاءات السعودية الإيرانية، وقد يرضى بقبول واشنطن بعض المطالب السعودية. إذ يتقاطع نتنياهو، رغم خلافه مع إدارة بايدن، في الأهداف التي ذكرتها سابقاً، إضافة إلى غاية مشتركة هي إنقاذ إسرائيل من الانقسام الداخلي بشأن "التعديلات القضائية" التي تسلب جزءاً من حرّية المواطنين اليهود، وهذا ما عارضته واشنطن، وإن كانت لا تأبه باستمرار عمليات القتل للفلسطينيين والفصل العنصري ضدّهم، فإنقاذ إسرائيل وسمعتها ضمن أولويات واشنطن، فيما يستفيد نتنياهو من اتفاق تطبيع مع السعودية، ولو "جزئياً"، يستطيع أن يعلنه انتصاراً له ضد خصومه السياسيين في إسرائيل ومعارضيه من اليهود الأميركيين.

يبقى أن خطر التطبيع حقيقي مع السعودية، وغيرها من دول مطبّعة وغير مطبّعة، خصوصاً بعد الخطوات أخيراً بالإمعان في التطبيع، وتورّط أكثر من دولة، بينها الأردن، بمشاريع تطبيعية اقتصادية تضرّ بسيادتها وأمنها الاقتصادي. المحزن أن هذا كله لا يصبّ لا لصالح الدول أو الشعوب، ويقودنا إلى حفرة عميقة، ففلسطين محتلة، ولا نرضى باحتلال غير مباشر للعالم العربي بأكمله. ولذا لا بد من، بل واجبنا، مقاومة التطبيع.