عندما تغير إسبانيا موقفها: مع المغرب في الصحراء
أزمة جديدة نشبت بين إسبانيا والجزائر، وهي مرشّحة للتصاعد، على خلفية التغير المفاجئ في موقف إسبانيا حيال قضية الصحراء، حيث اعتبر وزير الخارجية، خوسيه مانويل ألباريس، في 19 مارس/ آذار الجاري، أن مبادرة الحكم الذاتي التي طرحتها الرباط في عام 2007، تمثل "الأساس الأكثر جدّيةً وواقعيةً وصدقيةً لحل النزاع عليها"، وتلا ذلك إعلان الحكومة الإسبانية عن دخول "مرحلة جديدة" في العلاقات مع المغرب "تقوم على الاحترام المتبادل، واحترام الاتفاقات، وغياب الإجراءات الأحادية، والشفافية والتواصل الدائم"، وقابلها المغرب بإعادة سفيرته إلى مدريد، التي كانت قد استدعاها بعد أزمة دبلوماسية نشبت في إبريل/ نيسان 2021، إثر استقبال إسبانيا زعيم جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، للعلاج مستخدماً وثائق جزائرية.
وإذا كان تغير الموقف الإسباني من قضية الصحراء، من تأييدها أكثر من أربعة عقود ماضية إجراء استفتاء على الاستقلال لتقرير مصيرها إلى تأييد مبادرة الحكم الذاتي المغربية، قد لاقى إشادة وترحيبا في المغرب، إلى جانب دعم الاتحاد الأوروبي وترحيبه، إلا أنه أثار غضب السلطات الجزائرية، ما يعني أن الخطوة الإسبانية أسهمت في تخفيف التوتر بين مدريد والرباط التي أشادت "بالمواقف الإيجابية والالتزامات البناءة لإسبانيا بشأن الصحراء"، وقد استغربت الخارجية الجزائرية، في بيان معلن، ما سمّته "الانقلاب المفاجئ والتحول في موقف السلطة الإدارية السابقة للصحراء".
وعلى الرغم من تأكيد مسؤولين إسبان إبلاغ نظرائهم الجزائريين بموقف بلادهم الجديد، واعتبارهم أن الجزائر "شريك استراتيجي ذو أولوية وموثوق به"، وأن إسبانبا ترغب في الحفاظ على علاقة مميزة معه، إلا أن الحكومة الجزائرية استدعت سفيرها في مدريد "للتشاور"، الأمر الذي يشي بأنها قد تُقدم على خطوات تصعيدية، خصوصا وأن إسبانيا تستورد أكثر من 40% من حاجتها للغاز الطبيعي من الجزائر. ووصفت جبهة البوليساريو التغير في الموقف الإسباني بأنه "يتناقض بصفة مطلقة مع الشرعية الدولية"، ممثلة بالأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية ومحكمة العدل الأوروبية، وكل المنظمات الإقليمية والقارّية التي لا تعترف بأي سيادة للمغرب على الصحراء". ووصف زعيم "بوليساريو"، إبراهيم غالي، الموقف الإسباني بأنه "مؤسف ومخجل، لأنه غير قانوني وغير أخلاقي"، وأن "الدولة الإسبانية، بهذا الموقف، تعيد اجترار الخيانة التي ارتكبتها في عام 1975، حين قسمت، بغير حق وخارج القانون، الصحراء وشعبها، من خلال اتفاقية مدريد المشؤومة".
الهدف الأهم بالنسبة إلى إسبانيا من تطبيع علاقاتها مع المغرب هو الخلاص من عبء مشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين من الحدود المغربية
اللافت أن إسبانيا كانت قد وقفت بحزم ضد قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي اعترف فيه بسيادة المغرب على الصحراء في ديسمبر/ كانون الأول 2020، وبذلت جهوداً حثيثة من أجل عدم تبنّي بعض الدول الأوروبية قرار ترامب، ثم حثّت الحكومة الإسبانية الاتحاد الأوروبي على تبني موقفٍ يدعم جهود الأمم المتحدة في الصحراء، واستبعاد مبادرة الحكم الذاتي المغربية، وذلك ردّاً على تساهل السلطات المغربية مع دخول آلاف المهاجرين غير الشرعيين من المغرب إلى مدينة سبتة في مايو/ أيار الماضي. وبالتالي، فإن التغيّر الجذري في الموقف الإسباني حيال الصحراء يطرح تساؤلات عديدة بشأن حيثياته وأسبابه ودوافعه.
تذهب تحليلات وتقديرات إلى الربط بين تغير الموقف الإسباني حيال قضية الصحراء وزيارات نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، في جولة لها أخيرا، إسبانيا والمغرب والجزائر، وما تحدّثت به تقارير إعلامية عن رفض الجزائر طلبا أميركيا، إعادة تشغيل خط أنبوب الغاز الجزائري الذي يمرّ عبر المغرب باتجاه إسبانيا، بسبب القطيعة في العلاقات الجزائرية المغربية منذ أغسطس/ آب الماضي. ويدعم ذلك أن التغير في الموقف الإسباني جاء متزامناً مع التطورات الدولية الحاصلة بعد الغزو الروسي أوكرانيا، والتي تحتّم على دولٍ كثيرة تحديد موقفها حياله، حيث تعدّ الجزائر الحليف الاستراتيجي الأهمّ لروسيا في بلدان المغرب العربي، وهو ما يُفسّر امتناعها عن التصويت على قرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة الذي دان الغزو الروسي.
وقفت إسبانيا بحزم ضد قرار ترامب الذي اعترف فيه بسيادة المغرب على الصحراء
غير أن الهدف الأهم بالنسبة إلى إسبانيا من تطبيع علاقاتها مع المغرب هو الخلاص من عبء مشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين من الحدود المغربية، والتي فاقمها امتناع السلطات المغربية المتعمّد عن وقفها والسيطرة عليها، وذلك بعد توتر العلاقات بين البلدين. ولا يغيب عن ذلك أن الخطوة الإسبانية ترتبط بالتغيرات الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، خصوصا بعد افتتاح دول أوروبية عديدة ممثليات لها في الصحراء، إضافة إلى أن إسبانيا تنظر إلى الصحراء بوصفها منطقة اقتصادية هامة بالنسبة إليها، من حيث الاستفادة من الاستثمارات الكبيرة في أراضيها الغنية بالثروات الطبيعية ومياهها المليئة بالثروة السمكية.
ويكتسي الموقف الإسباني أهمية، كونه صادرا عن القوة الاستعمارية السابقة في الصحراء، وانسحبت منها لصالح المغرب وموريتانيا بموجب اتفاقية وقعتها مع المغرب في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1975. وحاولت، بعد انسحابها، إضفاء نوع من الحيادية على موقفها حيال قضية الصحراء التي شكلت، على الدوام، موضوع نزاع مديد بين الجزائر والمغرب، لكنها بموقفها الجديد حاولت تغطية رأسها، وفي الوقت نفسه، كشفت عن رجليها، بحسب وصف بعض وسائل الإعلام الإسبانية، التي اتهمت الحكومة الإسبانية بالخضوع للابتزاز والضغوط المغربية. ولذلك لن تتمكّن إسبانيا من الحفاظ على علاقاتٍ مميزة مع الجزائر، لأنها أضحت عالقة بين رحى الصراع المغربي الجزائري. وبناءً عليه، تخشى أوساط إسبانية من أن تلجأ الجزائر إلى استخدام سلاح الغاز، مثلما استخدمت المغرب سلاح الهجرة غير الشرعية من أجل الضغط على إسبانيا.