عندما تصبح العنصرية أداة للسلطة في لبنان

02 يوليو 2021
+ الخط -

كعادتها عندما تشتدّ الأزمات، تطفو الأسلحة غير المشروعة، وفي مقدمها سلاح العنصرية القميء الذي يجسّد مجموعة من النواقص، كالحقد والتعصّب والانغلاق والجهل والخوف أو التخويف من الآخر. وفي الحقيقة، هذه الأسلحة لا تظهر بشكل طبيعي أو عفوي، وإنما هم القادة والساسة من يلجأون إليها عندما تستنفد كل الأساليب والحيل، وعندما يشعرون بأنهم بدأوا يخسرون جمهورهم أو يفقدون السيطرة عليه. عندها يطلقون العنان لتعبئتهم الحاقدة ضد الآخر الغريب، الأجنبي، وغير اللبناني، وكيف إذا كان هذا الآخر فلسطينياً أو سورياً؟ وكما هو معروف، هناك في لبنان نحو مليون ونصف مليون نازح سوري، بفعل الحرب القذرة التي شنّها النظام السوري على الشعب السوري الذي ثار على حكمه الاستبدادي في منتصف مارس/ آذار 2011، فقتل مئات الآلاف منهم وشرّد الملايين، وأجبر ملايين آخرين على النزوح إلى خارج الأراضي السورية وفي داخلها. وكما في البلدان المحيطة، مثل الأردن وتركيا، يقيم هذا العدد الكبير من السوريين في لبنان منذ عشر سنوات في ظروف استثنائية، وترعى الأمم المتحدة إقامتهم في مخيمات البؤس، وتمول وجودهم من الناحيتين الصحية والغذائية، لكن وجودهم يشكل عبئا كبيرا على الدولة اللبنانية، إن من الناحية الاقتصادية، أو على مستوى البنى التحتية، ومن حيث ضرورة توفير الخدمات لهم، أو من الناحيتين الاجتماعية والأمنية.

شكلت اليد العاملة السورية في لبنان دعامة أساسية في مختلف مجالات الاقتصاد، وخصوصاً في الزراعة وقطاع البناء، منذ الستينيات

كما أن اللجوء الفلسطيني المستمر منذ 1948، والذي يبلغ عدده اليوم نحو ربع مليون فلسطيني، ويعيش في ظروفٍ أقل ما يقال فيها إنها غير إنسانية وغير لائقة من كل النواحي، وبكل المقاييس، يشكل على الدوام مادّة للسجال، ولبازار المزايدات السياسية والعنصرية. وقد أدّى فشل السلطة السياسية وانكشافها وغرقها في الفساد والزبائنية ونهبها المال العام إلى أزمة غير مسبوقة في تاريخ لبنان وضعته على حافّة الإفلاس والانهيار الكامل والشامل، وإلى دفع نحو 50% من اللبنانيين إلى العيش تحت خط الفقر، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة. وعمّقت حالة الغليان الشعبي الشرخ السياسي والاجتماعي، وأدّت إلى انفجار "ثورة أكتوبر" 2019 ضد كل الطبقة السياسية، ورفعت شعار "كلّن يعني كلّن"، أي أن كل أفرادها فاسدون وعليهم جميعا أن يرحلوا. وتقوم منذ ثلاث سنوات محاولات دولية لإنقاذ لبنان وانتشاله من مأزقه، تجسّدت في "مؤتمر سيدر" في باريس في ربيع 2018، وتمكّن من توفير مساعدات بقيمة 11 مليار دولار مشروطة بأن تُقدم الحكومة اللبنانية على إجراء إصلاحات جذرية بنيوية وضرورية للاقتصاد الريعي، وفي الإدارة لوقف عمليات الهدر والفساد المعشش في مؤسسات الدولة ودوائرها. غير أن السلطة الغارقة في صراعاتها والمتمترسة في خنادقها الطائفية ما زالت تكابر وتعاند، وتصم آذانها عن أي مساعدة أو محاولة إنقاذ تأتي من الخارج، وبالأخص المبادرة التي طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما زار بيروت مرتين في أقل من شهر بعد تفجير مرفأ العاصمة في 4 أغسطس/ آب الماضي، أو حتى من الاتحاد الأوروبي الذي أوفد الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية فيه جوزيف بوريل، قبل أيام، إلى بيروت، عارضا خطة اقتصادية للإنقاذ، بالتعاون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، شرط تشكيل حكومة اختصاصيين من غير السياسيين الحزبيين، تتولى تنفيذ الخطة الإصلاحية، وملوّحا بفرض عقوباتٍ على المعطلين والمعرقلين، علما أن لبنان يعيش من دون حكومة منذ أكثر من عشرة أشهر، وأن سعد الحريري المكلف بتشكيل الحكومة منذ سبعة أشهر ما زال يرواح مكانه بفعل الفيتويات المتبادلة. وبعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون، خرج بوريل مربكا ومذهولا، بعدما سمع من عون أن من الأسباب الرئيسية للأزمة مسألة النزوح السوري في لبنان، وحاول بلباقة الرد خلال حوار مع الإعلاميين قائلا إن أسباب عدم تشكيل الحكومة هي بحت داخلية؟!

تتناغم السلطة مع النظام في سورية ليمارسا أبشع حملات العنصرية توسّلاً للسلطة، وبغرض إبقاء السيطرة على السوريين مادة للابتزاز السياسي

أمام فظاعة حالة الانهيار التي يتخبط فيها لبنان ووقاحة طبقته السياسية، يعكس ما سمعه الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية انفصاما في الشخصية أو انقيادا أعمى لإرادة محور يريد أن يشيطن كل من يثور لكرامته، ويرفض الخضوع للقهر والذل والمعاملات غير الإنسانية، فقد شكلت اليد العاملة السورية في لبنان تاريخيا دعامة أساسية في مختلف مجالات الاقتصاد، وخصوصا في الزراعة وقطاع البناء منذ الستينيات عقودا، وكان العامل السوري الأرخص والأقل تطلبا ومرضيا عنه من كلا البلدين، وخصوصا بالنسبة للحكومة السورية التي كانت تستفيد من عائدات مواطنيها الذين كانوا يعودون أسبوعيا أو شهريا إلى بلداتهم وقراهم، ويعزّزون الاقتصاد السوري بالعملة الصعبة أو اللبنانية التي كانت قيمتها تضاهي قيمة الدولار، حتى نهاية السبعينيات. وكانت كتلة السوريين الذين يعملون في لبنان غير مسيّسة، ولا تقوم بأي نشاط، ولا تتعاطى أي عمل نقابي، ولا تطالب بأي حقوق خلال عملها ووجودها على الأراضي اللبنانية، وخاضعة بالتالي لاستنسابية ربّ العمل. أما اليوم، فان عدد السوريين كبير جدا، ويفوق بأضعاف عددهم في الحقبة الماضية، وهم في لبنان اليوم بفعل انتفاضتهم على استبداد النظام البعثي الذي كان يسيطر ليس على سورية فقط، وإنما أيضا على السلطة في لبنان، وهم في لبنان هربا من بطشه وقتله لهم وقصفهم بالبراميل المتفجرة. لذلك هم ليسوا كتلة طيّعة كما تعودت السلطة في لبنان أن تعاملهم، وكما كان يريد النظام السوري أن تتم معاملتهم وإبقاءهم تحت سطرة أجهزة مخابراته. وأكبر دليل على أن النازحين تحوّلوا إلى كابوس بالنسبة للنظام السوري هو النسبة الضئيلة التي حصل عليها الأسد في الانتخابات الرئاسية التي جرت في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، إذ لم يصوّت أكثر من 33 ألف ناخب من أصل أكثر من نصف مليون شخص يحق لهم التصويت، على الرغم من كل الضغوط التي مورست عليهم، والتهديدات التي تعرّضوا لها. لذلك، ومنذ انتخابه رئيسا للجمهورية في نهاية عام 2016، تحوّل النازحون السوريون إلى الشغل الشاغل لميشال عون إرضاء لرغبة بشار الأسد في استمرار الضغط عليهم، وتكفّل صهر عون، رئيس التيار العوني جبران باسيل، بشنّ الحملات العنصرية عليهم بشكل دوري منذ تسلمه وزارة الخارجية، تنفيذا لإرادة النظام السوري الذي لا يريد إرجاعهم، إلا أنه يستعملهم ورقة ابتزاز للدول الأوروبية تحديدا التي تخاف من موجات النزوح إليها تحت وطأة القمع وسوء المعاملة التي يلقاها النازحون، فتلجأ الحكومات الأوروبية إلى تمويل إقامتهم حيث هم، في لبنان وفي الأردن وفي دول أخرى. ويقوم باسيل، في المقابل، بالتجييش الطائفي والعنصري لدى المسيحيين، وبعض الشرائح العنصرية المعشّشة في صفوف اللبنانيين، من خلال التحريض على النازحين السوريين الذين يستنزفون برأيه الاقتصاد، ويستهلكون قطاع الخدمات من كهرباء وماء ومحروقات وتموين وغيرها، ويحرمون اللبنانيين منها.

وهكذا تتناغم السلطة في لبنان مع النظام في سورية ليمارس الاثنان أبشع حملات العنصرية توسّلا للسلطة، وبغرض إبقاء السيطرة على السوريين مادة للابتزاز السياسي. ويحظى هذا النهج بمباركة حزب الله، أحد أهم أركان محور الممانعة الممسك بزمام القرار في لبنان، وحامي نظام الأسد في سورية. أما الفلسطينيون فمن "حسن حظهم" أنهم في هذه المرحلة، وبعد انتفاضة القدس أخيرا، ينعمون برضى وتأييد من كل أطراف الممانعة، من طهران إلى دمشق إلى بيروت، وهم حاليا في منأى عن الحملات العنصرية، ولو أنه لا يمكن للفلسطيني المقيم في المخيم أن يدخل مواد بناء لإصلاح بيته! ولكن إلى متى؟

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.