عندما تذكّر حرب التيغراي بـ"عاصفة الحزم"
دخلت الحرب الجارية في إقليم التِيغراي الإثيوبي أسبوعها الرابع، تمكّنت خلالها حكومة رئيس الوزراء، آبي أحمد، من السيطرة على أجزاء كبيرة من مناطق الإقليم، وأصبحت قاب قوسين من حسم المعركة الأخيرة. وبحسب تصريحات آبي أحمد، عقب لقائه مع مبعوثين من الاتحاد الأفريقي، فإن قواته "تستعد لشن الهجوم الأخير" على عاصمة إقليم التِيغراي من أجل إنهاء القتال الذي بدأ في الرابع من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). كما رفض آبي أحمد أي تدخل خارجي في الحرب في بلاده، مؤكدا أنه لن يجري أي محادثات مع زعماء الجبهة الشعبية لتحرير التِيغراي، حتى يستسلموا أو يهزموا.
لم تكن التطورات والوقائع الجديدة التي تعصف بأركان الدولة الإثيوبية مفاجئة لمن يتابع الحَراك السياسي في إثيوبيا، فالقناعة أن الأوضاع قد تنفجر في أي وقت، ما لم تتوصل الأطراف السياسية إلى مصالحة حقيقية. وفي بداية عهد آبي أحمد، وكان الجميع مأخوذا بشخصيته، نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالةً تحذّر من مخاطر تفكك المجتمع، وتحوّل إثيوبيا إلى يوغسلافيا جديدة.
وغاية هذه المقالة، هنا، تناول الطريقة التي أَعلن بها رئيس الوزراء الحرب على الإقليم، وإصراره على أنها من أجل ما سماه "فرض سيادة القانون"، وأنها حرب لإنجاز مهامها في فترة وجيزة.
ليس مستبعدا، على المدى الطويل، أن تنجح القوات الإثيوبية في حسم المعارك في إقليم التِيغراي، لكن ما هو غير مفهوم حديث آبي أحمد عن سيادة القانون، في حين يعرف الجميع أن غالبية أفراد قواته من عرقية الأمهرا والمليشيات التابعة لها، وهي قواتٌ متهمةٌ بارتكاب جرائم بحق عرقيات أخرى، ومتهمةُ، صراحة، بأنها تحالفت مع آبي أحمد من أجل استعادة مكانتها السابقة في الحكم. ولو افترضنا جدلاً إمكانية حسم المعارك بالطرق النظامية، بعيداً عن حرب العصابات، فمن شبه المؤكد أن هذا الحسم ذاته لن يتحقق إلا على أشلاء مئات الآلاف من الناس.
التفكير الساذج الذي يصوّر حسم المعارك ضد جبهة تحرير التِيغراي خلال أيام يذكّر بحملة عاصفة الحزم في اليمن، التي جرى تشكيلها على عجل، وبالحماسة نفسها
والتفكير الساذج الذي يصوّر حسم المعارك ضد جبهة تحرير التِيغراي خلال أيام يذكّر بحملة عاصفة الحزم في اليمن، التي جرى تشكيلها هي الأخرى على عجل، وبالحماسة نفسها. هل حققت النصر كما توهم أصحابها في وقت وجيز؟ لقد فشلت الحملة فشلاً ذريعاً في تحقيق أيٍّ من أهدافها، وتسببت، عوضا عن ذلك، في كارثة إنسانية في اليمن، في حين أفلح الحوثيون، ليس في ترسيخ سلطتهم في صنعاء فحسب، بل صاروا يهدّدون أراضي السعودية نفسها.
تشبه طريقة الحرب الجارية في إقليم التِيغراي في إثيوبيا، من وجوه كثيرة، حملة عاصفة الحزم في اليمن، فالمجموعتان اللتان تخوضان الحربين، الحوثيون في اليمن والجبهة الشعبية لتحرير التِيغراي في إثيوبيا، تمتلكان خبرات طويلة في مقاومة الخصوم، تؤهلهما لخوض حرب عصابات طويلة الأمد. كما أن الطبيعة الجبلية الوعرة في بعض مناطق اليمن وفي أجزاء كبيرة من التِيغراي تساعد كثيرا في خوض حرب عصاباتٍ مفتوحة.
روى الكاتب والدبلوماسي السعودي الراحل، غازي القصيبي، في كتابه "حياةٌ في الإدارة"، في استعراضه لملابسات اختياره ضمن فريق "لجنة سلام" تُشرف على تطبيق بنود اتفاقية جدة، بين السعودية ومصر بخصوص الحرب في اليمن، أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قال للملك فيصل، في أثناء توقيع اتفاقية جدّه في خريف 1965، إن أنور السادات هو الذي أقنعه بالتدخل في اليمن، موضحاً أن [الأخير أوعز له أنَّ] ظهور طائرة واحدة كفيل بإفزاع القبائل هناك. وإن الرئيس عبد الناصر مازح الملك، بعد ذلك، قائلا إن مسؤولية ما حصل في اليمن تقع على عاتق السادات، "وعلى الملك فيصل أن يحاكمه باعتباره سبب الكارثة". وبطبيعة الحال، يصعب التأكد من صحة الواقعة التي أوردها القصيبي، لكن ما هو شبه مؤكد أن الإدارة المصرية، في ذلك الوقت، لم تكن بالفعل تعلم الكثير عن اليمن. ويذكر القصيبي، في هذا الصدد، "لم يكن عبد الناصر أو أحد من الذين كانوا حوله، يعرف شيئا عن اليمن، تاريخاً وشعباً وجغرافية وتقاليد وعادات". ويخلص الكاتب إلى أن الإدارة المصرية كانت تعتقد، بالفعل، أن "تدخلا عسكريا رمزيا يكفي لتوطيد دعائم الجمهورية الوليدة"، غير أن الأمور، كما يخبرنا التاريخ، لم تمض وفق هذا التصور الرغبوي، بل واجه الجيش المصري امتحاناً عسيراً في اليمن، حيث "جاءه التصعيد على جرعات، كما حدث للجيش الأميركي في فيتنام".
لم تكن "عاصفة الحزم" في اليمن حملة متعجلة فحسب، وإنما مثّلت خروجا عن الطريقة التقليدية التي تعالج بها السعودية ملفاتها الخارجية
روى القصيبي كذلك قصة أخرى مهمة عن موقف الملك عبد العزيز من الحرب مع اليمن. يقول "كان أبي، رحمه الله، في أوروبا خلال الحرب السعودية/ اليمنية سنة 1934. وما أن سمع بها حتى أسرع بالعودة ليُساهم في المجهود الحربي. [غير أنه] اكتشف، فور عودته، أن الملك عبد العزيز أمر بوقف قواته المتقدمة في اليمن ثم أمر بسحبها". وهو ما كان محلّ استغراب والد القصيبي الذي يضيف أن الملك عبد العزيز استدعى والده، حينما أبدى الأخير استغرابه عدة مرات، "وقال له وهما على انفراد: يا عبد الرحمن. أنت لا تعرف شيئا عن اليمن. هذه بلاد جبلية وقبلية لا يستطيع أحد السيطرة عليها. كل من حاول [السيطرة عليها] عبر التاريخ فشل، وكانت الدولة العثمانية آخر الغزاة الفاشلين. لا أريد أن أتورّط في اليمن، وأورّط معي شعبي".
ما يسوغ ميلا إلى تصديق هذه الرواية أن شواهد تؤكدها في طريقة تعامل السعوديين مع الملف اليمني، فقد عُرف عنهم أنهم يتعاملون مع الملف بحرص شديد، تمثلاً بوصية الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة، الذي أوصى بعدم التورّط في صراعٍ مباشر مع اليمنيين. وتماشيا مع هذا التوجه، تم تشكيل ما تعرف في الأدبيات اليمنية "اللجنة السعودية الخاصة"، المكلفة بإدارة ملف اليمن. وكان سلطان بن عبد العزيز رئيسها، واستطاع من خلالها التأثير في كل الأحداث الكبيرة التي شهدها تاريخ اليمن الحديث. وبما أن المجال لا يسمح باستعراض وتقييم أعمال اللجنة الخاصة، أكتفي بأن السعودية دفعت، عبر هذه اللجنة، أموالا طائلة لوكلائها، مكّنتهم من صنع مراكز نفوذ وتحكم في القرار السياسي، إلى درجة تعزّز القول إن اليمن تحول بالنسبة للأمن السعودي إلى ما يشبه "الحديقة الخلفية". بقيت السعودية على هذا المنوال عقودا، لقناعتها بأنه النهج الأمثل الذي يحفظ مصالحها في اليمن، من دون أن تضطرّ لخوض أي حربٍ مباشرةٍ معها.
المرجح أن تستمر المواجهات العسكرية في إثيوبيا، في واحدة من مساراتها، إلى حرب عصاباتٍ طويلة الأمد
بهذا المعنى، لم تكن "عاصفة الحزم" في اليمن حملة متعجلة فحسب، وإنما مثّلت خروجا عن الطريقة التقليدية التي تعالج بها السعودية ملفاتها الخارجية. ويعلم الجميع، دخلت الحرب عامها السادس، ولم تحقق الحسم في اليمن كما توقع من أشعلوها، ولا حتى الاستقرار للمملكة نفسها. على النقيض من ذلك، باتت ملفات انتهاكات السعودية في اليمن شبحا يطاردها في المحافل الدولية، وأضحت الحرب نفسها عبئا لا تعرف كيفية التخلص منه.
ومع أن للحرب الإثيوبية خصوصيتها، كونها قضية سياسية داخلية، بين مكوّنات إثيوبية، إلا أن كاتب هذه السطور يزعم أن سيناريو الحرب السعودية في اليمن سيعاد تكراره في إثيوبيا، ذلك أن لدى عرقية التِيغراي التي تحارب قوات الحكومة الإثيوبية تراث شعبي عريق في مقاومة الغزاة، وثّق التاريخ جوانب من تلك المقاومة عند تصدّيهم لجيوش الإمبراطور هَيلي سِيلاسي في الأربعينيات ومنغستو هَيلي مَاريام في السبعينيات. ومن يتابع تصريحات زعماء التِيغراي التي تعهدوا فيها، أخيرا، "بمواصلة القتال حتى النهاية"، يدرك، بكل تأكيد، أن الانتصار عليهم لن يكون سهلا. إضافة إلى ذلك، تملك الجبهة الشعبية لتحرير التِيغراي عتادا عسكريا كبيرا وخبرات طويلة في خوض الحروب. وقد انتهى إلى مثل هذه التوقعات معظم المراقبين، إذ يرجّحون ألا تنتهي الحرب باستيلاء قوات رئيس الوزراء الإثيوبي على مدن التِيغراي، بما فيها مغيلي، عاصمة الإقليم، ويرجّحون احتمال أن تستمر المواجهات العسكرية، في واحدة من مساراتها، إلى حرب عصاباتٍ طويلة الأمد. والمؤكد أن التبعات الإنسانية لهذه الحرب ستكون كارثية، ففي الشهر الأول منها فقط قتل فيها مئات الآلاف من الناس، وأدّت إلى نزوح نحو 40 ألفا إلى السودان.