عندما تتحوّل أوكرانيا إلى "كلمة سر"

02 فبراير 2022
+ الخط -

يقول الروائي الأميركي، وليام فوكنر، إنّ "الماضي لا يموت لأنّه ليس ماضياً". ولسوء حظ أوكرانيا، ينطبق هذا القول عليها أكثر من غيرها من دول القارة الأوروبية، إذ ما زالت مشكلات الماضي تلاحقها منذ كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى وهي في سعيها بعد إلى بناء دولتها ومؤسساتها الدستورية. وهذا ما جعلها محط أنظار الغرب والشرق على السواء، وحلقة من حلقات المواجهة المباشرة بين أميركا وروسيا، إذ تنظر إليها الأخيرة على أنّها امتداد لأمنها القومي، بحكم موقعها الاستراتيجي في شرق أوروبا ووسطها، وإطلالتها على السواحل الشمالية للبحر الأسود وبحر آزوف. وتحاول جاهدة ضمّها إلى حظيرتها كما فعلت مع شبه جزيرة القرم من قبل. ومع أنّ أوكرانيا ثاني أكبر بلد في أوروبا لناحية المساحة، فإنّ دورها في التأثير على سياسات القارّة يظل نهبا لمشيئة الأطراف الدولية التي يرى كل طرفٍ فيها ضرورةً لمصالحه وأمنه، ويعمل على دعم قوى وحركات سياسية فيها، بهدف الاستحواذ على قرارها، بينما يطمح معظم الأوكرانيين، وإن تعددت مناشئهم العرقية في أن يكونوا "بيضة القبان" في صراعات أوروبا بين الغرب والشرق، وهو الهدف الذي لم يتمكّنوا من تحقيقه بسبب تعقيدات أوضاعهم والانقسامات القائمة في صفوف اللاعبين السياسيين عندهم، إذ فشلت "ثورتان" قاموا بهما في العقد الأخير في منع التدخلات الخارجية في بلدهم.

ويلعب الجيوبوليتيك دوره في أوكرانيا، فبينما يسيطر الانفصاليون الموالون لروسيا على نقاط ومفاصل استراتيجية في الشرق، ويسعون إلى الحصول على حكم ذاتي تتيحه لهم اتفاقية مينسك التي عقدتها أوكرانيا وروسيا ومنظمة التعاون الأوروبي، نجد تأثير الطامحين إلى التحالف مع أوروبا حاضراً في غرب البلاد، وهم يعتبرون الاتفاقية بمثابة "مسمار جحا" الروسي، وقد تستغله في أي وقت.

ما زالت مشكلات الماضي تلاحق أوكرانيا منذ كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق

أخيرا، تحولت أوكرانيا الى "كلمة سر" في ظل احتدام المواجهات بين موسكو وواشنطن في أكثر من مكان، وقيام روسيا بتحرّكات عسكرية على الحدود الشرقية، رأى فيها الغرب ما يُنذر باحتمال ابتلاع أوكرانيا، وهذا الأمر غير مسموح به أميركياً ولا أوروبياً. ولذلك تصاعدت حدّة التهديدات والتهديدات المضادة بين مختلف الأطراف. وظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لاعباً رئيسياً يمسك بكلّ خيوط اللعبة، وهو القائل: "ليست مهمة السياسي صبّ العسل في الأكواب، بل وإعطاء الدواء المرّ في بعض الأحيان" وهو في أزمة أوكرانيا اليوم يعكف على التعامل مع سيناريوهات بعضها يحوي "دواء مرّاً" قد يسبّب مضاعفات خطيرة على صعيد أمن أوروبا والعالم.

من بين هذه السيناريوهات ما كشفته وزارة الخارجية البريطانية عن اتصالاتٍ روسية بسياسيين أوكرانيين موالين لها لتنصيب أحدهم، قد يكون النائب السابق، يفغيني موراييف، حاكماً في كييف، ومن ثم طلبه من موسكو التدخل عسكرياً لحماية بلاده في مواجهة احتمال تدخل أميركي أو أوروبي، وهذا السيناريو يشبه ما رسمه صدّام حسين في ذهنه، عندما فكّر في غزو الكويت، إذ أقدم على تنصيب ضابط كويتي على صلة بالمخابرات العراقية حاكماً على الكويت، وطلب هذا الحاكم مساعدة الجيش العراقي لحماية "ثورة" مزعومة تسعى إلى ضم الكويت إلى العراق، ومعروف طبعاً ما حدث بعد ذلك، وما جرّه هذا السيناريو الأحمق على العراق والمنطقة.

يعكف فلاديمير بوتين على التعامل مع سيناريوهات بعضها يحوي "دواء مرّاً" قد يسبّب مضاعفات خطيرة على صعيد أمن أوروبا والعالم

ثمّة سيناريو آخر يعدّ الأقرب الى تفكير بوتين، مستمد من نظرية "مصيدة ثيوسيديدس" التي تقوم على افتراض نشوب حرب نتيجة تنمّر قوة صاعدة بوجه قوة عظمى مهيمنة دولياً. وهنا يمكن لبوتين، وهو ما يعمل عليه، أن يضع الحرب خياراً محتملاً من باب التهديد فقط، ما يدفع الطرف الخصم إلى تلبية بعض مطالبه، وهو يدرك أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاءه الغربيين لا يميلون إلى خيار الحرب، لأنّه يغرق كلّ الأطراف في تداعياتٍ غير محسوبة، ومطالب بوتين معروفة: "لن نقبل بأن يصل حلف الناتو إلى عتبة بيتنا" في ردٍّ على تلويح الأميركيين بنشر صواريخهم في أوكرانيا واحتمال انضمامها إلى الحلف، فيما يريد الأميركيون إعطاء الحلف جرعة حياة جديدة عبر أوكرانيا، بعد اصابته بـ"موت دماغي" بوصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وهم يرفضون أيّ توغل روسي، ويعتبرونه "سابقة لم تحصل منذ الحرب العالمية الثانية" واللعبة الآن في أوج تصاعدها، ومن يضحك أخيراً قد لا يضحك كثيراً إذا ما سنحت الفرصة لخصمه لتغيير قواعد اللعبة!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"