على مشارف زيارة بايدن المنطقة
تقبل المنطقة العربية خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة على حدث سياسي محفوف بتداعيات يرجّح أن يكون لها آثار مصيرية على مستقبلها وكيانها، وهو زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن السعودية والأراضي الفلسطينية وإسرائيل. وفي مقدّمة تداعيات هذا الحدث ما سينتج منه من إتمام حلقات حاسمة في التطبيع بين دول الخليج العربية والعدو الصهيوني من خلال إدخال السعودية في التحالف الإبراهيمي. وأخطر ما في هذه الخطوة إذا جرت، تخلي السعودية عن موقفها التاريخي المناهض للاستعمار الصهيوني لفلسطين، الذي كانت ذروته مساندة المغفور له الملك فيصل حرب تشرين 1973، وحظر تصدير النفط، وتكراره أمنية الصلاة في المسجد الأقصى مع تحرير فلسطين. واستمرت السعودية على هذا النهج عبر حكم المغفور لهم الملك خالد والملك فهد والملك عبد الله، وصولاً إلى تزعمها المبادرة العربية في حل القضية الفلسطينية، على أساس الحدود الدنيا من قرارات الشرعية الدولية. أما زيارة بايدن، فتهدف إلى إقناع المملكة بالتنكّر لذلك النهج الحكيم، والمتسق مع مقتضيات السيادة والاستقلال والتراث المشرّف، والتورّط بدلاً من ذلك في الانضمام إلى تيار التطبيع المجاني الذي يدعم أهداف السياسة الإسرائيلية الجارية في استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية والعربية وتوسّع الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية. بل لعل الهدف الأميركي - الإسرائيلي الأكثر فداحةً في خطورته هو الانخراط في مبادرات سياسية مشابهة لمشروع صفقة القرن، بغرض تخفيف الوزن السياسي للكثافة السكانية الفلسطينية في القدس والضفة الغربية، من خلال توفير شروط لاستبدال حقوق المواطنة البديلة على حساب الأردن بحقوق المواطنة المتساوية على تراب فلسطين التاريخية.
وسيحاول الرئيس بايدن أن يحرف الانتباه عن هذا الخطر الوجودي على الفلسطينيين والعرب، من خلال تنازلات سطحية أميركية وإسرائيلية للأردن، من قبيل التأييد وتأكيد الوصاية الأردنية المفرغة من أي عمق سيادي على المقدّسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، ومن خلال مشاريع لتوحيد الدفاعات الجوية للسعودية ودول الخليج العربية ضد تهديد إيراني مفترض. كذلك سيحاول أن يقنع السعودية بالارتداد عن سياستها التي يمليها الحرص على أولوية المصالح السعودية المرتبطة بمفهوم الدولة المستقلة السيادية، وبواجباتها تجاه المصالح المشتركة لدول "أوبك"، والانحياز بدلاً من ذلك إلى تأييد سياسات حلف الناتو التي سعت لتحويل أوكرانيا إلى قاعدة تهديد أمني ضد روسيا، الأمر الذي أنتج العملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا.
سيحاول الرئيس بايدن أن يحرف الانتباه عن هذا الخطر الصهيوني الوجودي على الفلسطينيين والعرب، من خلال تنازلات سطحية أميركية وإسرائيلية
ولا سبيل لمواجهة هذه الأحداث وتداعياتها الكارثية إلا بتفكيرٍ خارج الصندوق، تنتج منه سياسات جريئة مؤسّسة على قواعد صلبة من حقائق الجغرافيا والتاريخ التي تميّز العدوّ الحقيقي من العدوّ المفتعل عند هذا المنعطف المأزوم من حياة الأردن والدول العربية. مثل هذا التفكير الجدّي لا يلبث أن يستنتج أن ركن الضلال والخطأ في فهم أزمة المنطقة هو في حقيقة الأمر الموقف الذي يشيطن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويعتبرها العدو الوجودي للدول المجاورة لها في المنطقة، وهو موقفٌ مشبع بالضلال والعجز عن فهم التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية! فالجغرافيا تقضي بأن إيران جزء من كيان منطقة غرب آسيا، وكيان باقٍ ومستمر بموارده البشرية والطبيعية ما بقيت هذه المنطقة. والتاريخ يفتي بأن هناك جذوراً ووشائج تراثية وثقاقية ودينية ضاربة في عمق التاريخ تشد إيران إلى جوارها العربي، وتعزّزها مصالح مشتركة اقتصادية وتجارية جعلت العلاقات الإيرانية – العربية طوال عقود سابقة على الثورة الخمينية، متميزة بالهدوء والمسالمة وحسن الجوار، بل وبلغت علاقات مصاهرة عائلية بين الأسرة المالكة في طهران والأسرة المالكة في القاهرة.
تصوير إيران بأنها المارد الشرّير يستند إلى افتعال الصور الشيطانية الآتية: السعي للسيطرة على دول عربية، ولا سيما في دول الخليج العربية. السعي لنشر المذهب الشيعي في دول مجاورة لإيران، ولا سيما دول الخليج العربية. السعي إلى امتلاك القدرة النووية. وفي دحض صحة هذه الصور، يفيدنا علم السياسة بأن كل دولة قوية تسعى لإسقاط ظلال قوتها ونفوذها على علاقتها مع الدول الأخرى، ولا سيما المجاورة. تركيا، إيران، مصر في زمن قوة سابق، كل منها مارست إسقاطاً لظلال القوة والنفوذ سبّب توتّراً مع الدول المجاورة. لكن هذا شيء، والفعل العدواني شديد الأذى شيء آخر، ولا سيما إذا بلغ درجة التهديد الوجودي كما هو الحال في التهديد الإسرائيلي للمصيرين، الفلسطيني والأردني خصوصاً، والمصير العربي بوجه عام. ولذلك لا يجوز التردّد في إدانة أي زعم بتشابه أو تكافؤ بين إسرائيل بصفتها العدوّ الوجودي للدول المنتسبة إلى القومية العربية، وسلوك عدائي عابر من إيران أو أي دولة أخرى، حتى لو صحّ أنه حصل. وفي ما يتعلق بهدف نشر المذهب الشيعي، فهو إذا صحّ وجوده فإنه يبطل هدف السعي للسيطرة السياسية، لأن تغيير المذهب لا يكون إلا بالتبشير والإقناع، ولا ينجح التبشير والإقناع إذا اقترن بأفعال العدوان.
أما ما حصل بعد ثورة الخميني من مبادرات وأفعال عدائية، وخصوصاً بين إيران والعراق، فيتشارك في المسؤولية عنها الطرفان، إضافة إلى مسؤولية المخابرات الأميركية التي حرّضت على ذلك العداء، وانتهت به إلى حرب الثماني سنوات، معزّزة له بالسلاح والمعلومات المخابراتية، حتى احترق في أتون هذه الحرب مئات الآلاف من العراقيين والإيرانيين، وهي الحرب التي أطلق عليها مجرم الحرب هنري كيسنجر حرب "الاحتواء المزدوج" للتهديدين الإيراني والعراقي.
سعي إيران لامتلاك القدرة النووية، ينبغي أن يكون مطلباً عربياً وإسلامياً لتحييد الابتزاز النووي الإسرائيلي قدر الإمكان
أما سعي إيران إلى امتلاك القدرة النووية، فينبغي أن يكون مطلباً عربياً وإسلامياً لتحييد الابتزاز النووي الإسرائيلي قدر الإمكان. وقد أثبت التاريخ الحديث أن توازن الرعب أنجح العوامل في تثبيت السلام. واحتكار إسرائيل القدرة النووية أقوى العوامل التي تعزّز التوتر وتقصي الاستقرار عن المنطقة. بل نقول أكثر من ذلك، إذا صح وجود تهديد من نوع ما مرتبط بالميل الطبيعي لدى إيران بوصفها قوة إقليمية لإسقاط ظلال من قوتها ونفوذها على الخليج العربي ودوله، فهو ليس التهديد الأخطر على دول الخليج العربية. التهديد الحقيقي لهذه الدول هو التغيير الجاري في تكوينها السكاني لمصلحة العمالة الهندية، والآسيوية عموماً، والذي يوشك أن يحسم الخلاف التقليدي بين العرب والإيرانيين في أن الخليج عربي أو فارسي يحسمه ليس في مصلحة أي منهما، بل في أن هذا الخليج هو بالفعل وبالمقياس المادي البشري يوشك أن يصبح الخليج الهندي أو الآسيوي!
وقد أثبتت تجارب التاريخ أن الحكمة واستنهاض النيات الحسنة، وبذل الجهد الدبلوماسي المخلص يمكنها إخماد نيران العداء وتحقيق السلام والأمن بين الدول، حين لا يكون هناك تناقض موضوعي مادي في المصالح بينها. ونحن نزعم أنه لا يوجد بين إيران وأيٍّ من جيرانها أي تناقض في المصالح المادية يبرّر اللجوء إلى العنف والحروب. بل على العكس، يوجد تكامل وتآلف في هذه المصالح يعبّر عنه حجم التبادل التجاري والاستثماري بينها، بل والاشتراك الجيوفيزيائي في الثروات الطبيعية، كما تمثله المشاركة في حقل الغاز الضخم بين إيران وقطر، والمشاركة في شط العرب بين إيران والعراق.
في غياب تلك التناقضات المادّية المبرّرة للعداوات الجادّة، لا يبقى سوى التناقضات الإيديولوجية المبنية على معتقدات وتأويلات، بل إساءات فهم دينية يغذّيها الجهل المتفشّي في بعض الفئات الاجتماعية المتطرّفة، وتعود في أصولها إلى عصور غابرة لا يجوز أن يسمح لها بالتأثير في حياة الشعوب في القرن الواحد والعشرين. ومما يؤيد صحة هذه الأطروحة، تنبّه القيادة السعودية اللافت للعائق الحضاري الذي تمثله الإيديولوجيا السلفية المستندة إلى الابتعاد عن القرآن الكريم والسُّنة المتواترة جماعة عن جماعة من دون انقطاع، كمركز أساس للإسلام الدين القيّم، وترويج دين متطرف مناقض للإسلام الدين القيّم مبنيٍّ على أحاديث الآحاد التي لم تُدوَّن إلا بعد مائة عام من وفاة الرسول الأعظم تحت تأثير الصراعات السياسية في عهد المُلكين العضوضين، الأموي والعباسي، ومن هذه الأحاديث الأحادية المختلقة ما سعى، بكل صفاقة، لنسخ صحيح النصوص القرآنية الكريمة وتعطيل أحكامها!
يمكن التأسيس لحوار شامل بين القيادات السعودية والعربية من جهة والقيادة الإيرانية من جهة أخرى، بهدف تثبيت القواعد والحيثيات لحسن الجوار
من الصعب لكلماتٍ قليلةٍ في مقالٍ فرديٍّ كهذا المقال أن تدحض الانطباعات والقناعات والإدراكات التي ما برحت تبشّر بها، خلال السنوات الماضية، أجهزة من الإعلام المغرض المكتوب والمرئي والمسموع مكرّسة لخدمة أجندة إسرائيل والصهيونية العالمية بصور مباشرة وغير مباشرة، من طريق ترويج المبالغات والأكاذيب التي تمثل المسلمين الشيعة شياطين، وتذكي لهيب العداء بين المسلمين الشيعة والمسلمين السُّنة، ساعية لإغراق الطرفين في حرب مذهبية دموية، تحوّل الدين الإسلامي الحنيف من قوة مباركة لتوحيد المجتمع إلى قوة باغية لتدميره. يغذّي ذلك تفسير جاهل وظلامي بالغ الضلال لمقاصد الدين والشريعة، وإحياء لخلافات سياسية حدثت في عصور غابرة من تاريخ المسلمين، وإسقاط هذه الخلافات، بكل اللؤم وسوء النية، على حياة المسلمين الراهنة. وقد سبق أن حذر المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز من أن حرباً كتلك ستكون حرب المائة عام التي لا رابح فيها.
ولعل الأكثر جدارة بتفهّم هذه الكلمات القليلة وإدراك صحتها وسلامة المنطق الذي تستند إليه، هو الملك الهاشمي عبد الله الثاني، كما سبق أن أدرك حكمته المغفور له الملك الراحل الحسين بن طلال في مرحلة من المراحل، فتعامل مع المسلمين الشيعة في إيران وفي كل مكان على أنهم شيعة آل البيت، وأنه عميد آل البيت، فكان أن تجاوبت معه بحماسة أركان القيادة الإيرانية، وأصبحوا يخاطبونه بابن العمّ، وكان أن ابتنى الملك الراحل لدى القيادة الإيرانية للهاشميين وللأردن رصيداً ضخماً من حسن النيّة، والحرص على المصالح المتبادلة، وذلك قبل أن تنجح سياسة كيسنجر في الاحتواء المزدوج للعراق وإيران.
بيد أنه على خلفية المراجعة العلمية المستنيرة للتراث الديني، ومع بلورة مبادرات جادّة لتطوير المصالح الاقتصادية المشتركة، يمكن التأسيس لحوار شامل بين القيادات السعودية والعربية من جهة والقيادة الإيرانية من جهة أخرى، بهدف تثبيت القواعد والحيثيات لحسن الجوار والسلم المستدام، وبناء رصيد من النيات الحسنة يشكّل رافعة فعالة للجهد الدبلوماسي على أرفع مستوى من أجل تنفيذ مخرجات ذلك الحوار وتطبيع العلاقات الإيرانية العربية، ابتداءً بالعلاقة بين إيران والسعودية وانتهاءً بالهدف الأسمى، وهو إقامة تحالف استراتيجي للأمن والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي المشترك، يضم جميع دول غرب آسيا، بما فيها إيران وتركيا والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بحيث يكون هذا التحالف قوة إقليمية تمارس سياسة دولية مستقلة وضاغطة ضغطاً حاسماً من أجل تكريس سيادة أحكام القانون الدولي في المنطقة، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بحقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وتنظيف المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.