على الإمبراطورية البريطانية الاعتذار عن جرائمها

18 سبتمبر 2022

الملكة إليزابيث الثانية والأمير فيليب في إيبادان في نيجيريا (15/2/1956/Getty)

+ الخط -

ذُرفت دموع غزيرة لدى السماع بوفاة ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، وخلال مراسم تشييع جثمانها، حزناً على موتها، وربما حزناً على مرور الزمن، وكأن رحيلها أيقظ الخوف من الموت في محبيها، وحتى عند غير محبيها. ولكن النزف العميق لم يظهر بالقوة ذاتها على الشاشات، فهو نزف أبناء المستعمرات السابقة، وما تبقى منها، فوفاة الملكة فتحت جروحاً لم تندمل في قلوب من عانى الاضطهاد والعبودية والتعذيب تحت شمس الإمبراطورية، وإنْ ضَعُفَت القديمة، لكن سياسات بريطانيا الاستعمارية لم تنته ولم تتغير.

أضم صوتي إلى المطالبات بوجوب اعتذار الإمبراطورية عن جرائم النهب والسلب وقتل الشعوب في أكثر من قارة وفي أنحاء مترامية من بقاع الأرض. أضمّ صوتي إلى من يطالب بالتعويض، أو على الأقل إعادة المجوهرات والأحجار الثمينة والأثرية المنهوبة والمسروقة إلى البلاد التي سحقتها الإمبراطورية ببسطارها (الحذاء العسكري)، وشاركت في العقود الأخيرة في غزو دول وشعوب وقصفها تحت شعارات مختلفة، لم تختلف عن كذبة مهمة "الرجل الأبيض" في جلب الحضارة والتحديث لـ"الشخص الهمجي"، وأزعم أنهم ينظرون إلينا على أننا من بين هؤلاء الهمج، فوعد بلفور، الذي أعطى بموجبه وزير الخارجية البريطاني صكّ مُلكية أرض فلسطين للحركة الصهيونية، ينسجم مع منطق الاستعمار العنصري بإنشاء قاعدة متقدّمة للحضارة في منطقة "همجية".

الحقائق عن حضارة الشعوب لم تعن شيئاً لبلفور أو لكل تبريرات الاستعمار البريطاني في أفريقيا وآسيا والبحر الكاريبي والعالم العربي، فلا عجب أن تنطلق الصرخات والأصوات المطالبة بالاعتذار و/ أو التعويض الآن، فالتعظيم الذي رافق وفاة الملكة، والذي فاق العزاء واحترام حياتها وموتها كإنسانة، كان مستفِزّاً، ولم يُقصر على حكومات ودول تؤدي واجبها البروتوكولي، ولا على الحلفاء، المستمرّين هم وبريطانيا الحديثة في ظلم الشعوب، وإنما جاوزهم إلى عامة الشعب أو الشعوب، حتى من ضحاياها وأبناء ضحاياها وأحفادهم، كأنه تأكيد لما كتبه المفكر المناهض للاستعمار والمناضل ضده وعالم النفس فرانس فانون، في كتابه "المعذبون في الأرض"، أن "المُضطَهَدين يشعرون دائماً بأنهم أدنى من المضطهِدين"، أو كما وصف ابن خلدون الحالة بالقول: "المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده".

التعظيم الذي رافق وفاة الملكة، والذي فاق العزاء واحترام حياتها وموتها كإنسانة، كان مستفِزّاً

في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست الأميركية، قال رجل من بنغلادش إنه ما يزال يحسّ بوجع والده الذي كان يحدّثه عن الاضطهاد والجوع تحت الحكم البريطاني للقارّة الهندية، لكنه الآن يشعر بحزن على وفاة الملكة لا يعرف مصدره، وهو يعتقد أن مشاعرَه المتناقضة هي نتيجة "البروباغاندا" التي سادت بعد انفصال باكستان عن الهند، بتدخل وتأثير بريطانيين، فقد جرى تصوير الملكة عقب ذلك على أنها "رمز الديمومة".

ساهم استمرار حياة إليزابيث الثانية إلى سن السادسة والتسعين في أن أصبحت وجوداً ثابتاً في أذهان الناس، بغضّ النظر عن جنسياتهم، فحتى من دون الدعاية الاستعمارية التي ربطت نفوذ الإمبراطورية بشخصية الملكة نفسها، فإن الإنسان يرتاح إلى استمرارية المألوف، وبخاصة في عصر الإعلام المعاصر الذي جعل حياتها تُشعر بالناس بحميميةٍ غير حقيقية، وإن كانت واقعاً حقيقياً، لكنها أيضاً، كما عبر المواطن البنغالي، وبصدق، فكرة جرى غرسها في عقول أبناء المستعمرات، حتى وإن أصبحت مستعمراتٍ سابقة.

بريطانيا شاركت في غزو العراق وقصف أفغانستان، وما تزال لديها مستعمرات، ودمرت حيوات نفسية وجسدية بين الشعوب المستهدفة

قد لا يعجب حديثي هذا كثيرين، فقد شاهدت ردود الفعل بيننا، ومنهم مَن هم تحت الاحتلال الصهيوني أو عانوا من غزو العراق واحتلاله وتدميره، إذ يبدو أن هناك فصلاً بين شخصية الملكة وتداعيات السياسة البريطانية، قديماً وحديثاً، فالسيدة المتقدّمة بالعمر أضحت، قبل مماتها وبعده، ممثلة لـ"الوقار والحكمة"، ودخلت كل بيت في العالم؛ "شخصية غير مؤذية" من عائلة أضحت في زمن الترفيه نموذجاً للجمال والأناقة والموضة، فالعائلة المالكة باتت جزءاً من ثقافة الترفيه، يتابعها الملايين كما يتابعون نجوم هوليوود، لكنهم يضفون عليها صفات "الرقي" و"الكمال"، وكما يقال بالعامية "الكلاس". فضلاً عن أن قصص العائلة من حب وخلافات تحظى باهتمام واسع، خصوصاً بعد ظهور الأميرة ديانا بسحرها، وبعد حادثة مقتلها المأساوية.

هذا، في جزء منه، تعاطفٌ إنسانيٌّ مفهومٌ وطبيعيٌّ، لكن خلطاً يجري بين هذا كله وحقيقة إرث العائلة الاستعماري الذي لم تعتذر الملكة الراحلة عنه، ورفضت الحديث عن التعويضات، فيما عدا اضطرار بريطانيا عام 2013 للاعتذار ودفع تسوية تعويضاتٍ لضحايا مناضلي حركة الماو ماو في كينيا في الستينيات، بعد أن رفع هؤلاء أو أولادهم دعوى شهيرة في المحاكم البريطانية.

من الهند إلى نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا إلى فلسطين والعراق ومصر وبلاد أخرى كثيرة، يعيش الملايين شجوناً خلّفها الاستعماران القديم والجديد، فبريطانيا شاركت في غزو العراق وقصف أفغانستان، وما تزال لديها مستعمرات، ودمرت حيوات نفسية وجسدية بين الشعوب المستهدفة، فقد شاركت بريطانيا، مثل دول غربية أخرى، في نهب ثروات الشعوب ومقدّراتها، ومنها جواهر ومجوهرات لتزيين بيوت العائلة الملكية وثيابها، ولوحات لا تقدّر بثمن، وكأنها حق من حقوقها، من دون أي رادع أخلاقي، فضلاً عن سلب ماسّة كونان من جنوب أفريقيا التي ارتفعت أصواتٌ تطالب بريطانيا بإعادتها.

فتح رحيل الملكة شلالاً من المطالبات، مدفوعة، ليس بالشعور بأحقية الشعوب باسترجاع ثرواتها فحسب، وإنما بشعور أن مراسم عزاء (وتشييع) الملكة ومجوهراتها المسروقة منهم استهانت بمشاعرهم وعذاباتهم، فذكرى حكم الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا، وحكم المستوطنين المزارعين في زيمبابوي، التي كانت تسمى روديسيا، تيمّناً بسيسيل رودس، أحد أبرز المستوطنين وأغناهم وأشرسهم في التوسّع الاستيطاني في تلك الفترة، كلها ذكريات قريبة، أعادتها جنازةٌ بدت وكأنها احتفائية بإرث بريطانيا الاستعماري.

لا يمكن عدم تحميل الملكة مسؤولية عدم الاعتذار أو وِزر سياسات بريطانيا، فمجازر كثيرة ارتكبت في عهدها

لا يمكن عدم تحميل الملكة مسؤولية عدم الاعتذار أو وِزر سياسات بريطانيا، فمجازر كثيرة ارتكبت في عهدها. لا أتحدّث عن حربي العراق وأفغانستان، وتأييد بريطانيا إسرائيل فحسب، إضافة الى أنها حملت الإرث الاستعماري من دون الاعتذار، حتى إنها ردّت على هنود طالبوها بالاعتذار عن مجزرة مريعة ارتكبها الجيش البريطاني في عام 1919، في زيارتها الهند عام 1997، بأنه "لا يمكن تغيير التاريخ".

ولكن المسألة المهمة الآن عدم تجاهل أصوات المضطهدين وأولادهم، وهو طلبٌ قليل مقابل حجم الجريمة، فيكفي ثمن المنهوب من الثروات التي ما يزال الغرب يراكم أرباحه منها على حساب دماء الشعوب، لدفع، ولو بعض التعويضات التي لن ترجع حياةً أو تعوّض عن عذاب (وصرخات) أحرار جعلوهم عبيداً في أوطانهم وخارج أوطانهم. والأهم: تغيير السياسات .. ليس لدي أوهام، لكنه تحريض على المطالبة، فلنكن في المنطقة من المطالبين، فهذا نضالٌ وهو بديل عن الاستسلام.

تحضُرني مصافحة الملكة المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، ومصافحتها الثائر الأيرلندي زعيم "شين فين"، مارتين ماغينس. لم تلتق بهما تأييداً لنضالهما، وإنما، بحسب كاتبة هذه السطور، اعترافاً بانتصارهما، فالدونية التي يشعرُ بها المُضطَهَدون تختفي إذا أصبحوا أنداداً، وقاتلوا حتى يحيوا ويموتوا أنداداً، ورفض التبعية وفضح الإرث الاستعماري والمطالبة بالحق هو التأكيد أن تكون ندّاً، لا تابعاً، وهذا هو مفتاح الحرية.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني