على أعتاب "تشرين" العراقي
تستعد قوى شبابية وتيارات احتجاجية وسياسية مدنية عراقية كثيرة، وعلى الأغلب بالاشتراك مع التيار الصدري، للنزول إلى ساحات العراق وشوارعه في الأول من الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول) إحياءً للذكرى الثالثة لاحتجاجات تشرين، والتي كانت، قبل ثلاث سنوات، منعطفاً هاماً، ولحظة غير مسبوقة للاحتجاج على النظام السياسي العراقي، ما أدّى إلى إسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وإقرار قانون انتخابات جديد، وإجراء انتخابات مبكّرة أدّت إلى تراجع حظوظ القوى الإسلامية المقرّبة من إيران، المتهمة أساساً بأنها وراء تصفية أكثر من 600 شاب من المحتجين.
ما زال التحوّل الذي أحدثته احتجاجات تشرين يلقي بظلاله على العملية السياسية في العراق، وما زال البلد في دوامة تداعيات نتائج الانتخابات المبكّرة، وتمسّك القوى المقرّبة من إيران بمواقعها، وامتناعها عن القبول بالواقع الجديد، وهو ما قاد إلى انسداد سياسي ترك البلد بدون حكومة كاملة الصلاحيات منذ سنة تقريباً.
يتوقّع [ويتمنّى!] مراقبون كثيرون أن تكون الاحتجاجات الجديدة استعادة لـ"تشرين" السابقة وزخمها غير المسبوق، بالشكل الذي يضغط على النظام السياسي لإحداث إصلاحات وتغييرات طال انتظار الجمهور العام لها، ويتمنّى بعضهم أن تندفع الاحتجاجات إلى خطوة أبعد و"تُسقط" النظام السياسي بأكمله. ولكن المعطيات تقول غير ذلك؛ فأساساً لم تكن احتجاجات تشرين نتيجة تخطيط دقيق ومحكم من المحتجّين، ولم يكن أحدٌ يتوقع أن تصل بفورانها إلى الصورة التي انتهت إليها، حتى من مساهمين كثيرين فيها، كما أنها كانت تنفيساً لضغط تراكمات طويلة أحدثتها أخطاء النظام السياسي في الواقع العراقي، وانفجر هذا الضغط بشكل غير متوقّع.
الأمر الأكثر أهمية أن احتجاجات الأول من تشرين 2019 كان يمكن أن تمضي على منوال الموجات السابقة من الاحتجاج التي اعتاد عليها الشارع العراقي منذ 2011، فتأخذ زمناً معيّناً، يطول أو يقصر، وتنتهي من دون مشكلات كثيرة، لكن العنف الذي واجهت به أجهزة النظام الأمنية جموع الشباب المحتجّين، وسقوط قتلى عديدين، جعلا الشباب يعودون بغضب أكبر في 25 من تشرين الأول مع أضعاف مضاعفة من الذين كانوا متردّدين، ولكنهم صاروا بعدها جزءاً من الثورة الشبابية.
سبب آخر مهم لا يرجّح عودة الاحتجاجات إلى قوتها السابقة؛ أن النظام السياسي بقواه المليشياوية المسلحة أثخن الجسد الاحتجاجي بالجراح، واستمرّ بملاحقة المحتجّين وتصفيتهم وتغييبهم حتى بعد انتهاء الاحتجاجات، بحيث وصل العدد إلى أكثر من 700 قتيل و22 ألف جريح ومعاق، وغادر ناشطون شباب كثيرون مدنهم وبلداتهم إلى خارج العراق طلباً للنجاة من أسلحة المليشيات. هذا الرد العنيف من النظام الذي تسيطر عليه المليشيات يؤجّج الغضب في نفوس الشباب، ولكنه مثّل عاملاً محبطاً لبعض منهم، خصوصاً الذين رأوا أصدقاءهم يسقطون أمام أعينهم بنيران المسلحين والعبوات الدخانية.
المتغيّر الأهم في الاحتجاجات المتوقعة دخول التيار الصدري بشكل واضح، وهذا ما يعطي نوعاً من الحماية للمحتجّين الشباب، ولكن وجود الصدريين يشطُر الحراك الاحتجاجي إلى نصفين، ويجعل "تشرينيين" كثيرين يمتنعون عن النزول إلى الشارع، فهؤلاء يرون الصدريين جزء من النظام الذي خرجوا للاحتجاج عليه، كما أن التجارب الاحتجاجية المشتركة السابقة مع الصدريين من 2016 وما بعدها تثبت صعوبة التنسيق بين الطرفين، فهؤلاء يميلون إلى قيادة التظاهرات، وتجييرها لصالحهم.
هناك نقطتان مهمتان تتعلقان بالاحتجاجات المقبلة: الأولى: أن الأسباب التي خرجت من أجلها احتجاجات 2019 ما زالت قائمة؛ فالمليشيات تسيطر على البلد، والانسداد السياسي والفساد سيّدا المشهد، والتعطّل في النظام السياسي والفشل في مواجهة تلال المشكلات التي يواجهها المجتمع العراقي يفرض نفسه منذ ثلاث سنوات، لذا، أي احتجاجات جديدة لن تعدم الأسباب لقيامها.
الثانية: من الصعب فصل الاحتجاجات المقبلة عن الأزمة السياسية المستحكمة حالياً، وتحديداً ما بين "الإطار التنسيقي" المقرّب من إيران والتيار الصدري الذي استقال نوابه من البرلمان، بعد أن كان الكتلة الأكبر، وخاض على مدى أشهر حراكاً احتجاجياً شعبياً أدّى الى مواجهات وسقوط ضحايا داخل المنطقة الخضراء.
.. وما دام الصدريون قد لمحوا أنهم سيكونون في قلب الاحتجاجات، فهذا سيعني توظيف الحراك الاحتجاجي الجديد في حلبة الصراع القائم بينهم وبين "الإطاريين".
وبالنسبة لـ"التشريني القحّ" سيكون من الصعب أن يجعل نفسه في منطقة ثالثة خاصّة به في هذا الصراع الدامي بين طرفين قويين داخل نظام سياسي يراه التشريني نظاماً متفسخاً ومعطوباً في العمق.