عقدة 14 تموز المختلف عليها

19 يوليو 2023

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

العراقيون الذين ولدوا في يوم 14 تموز /يوليو عام 1958 يحتفلون هذه الأيام بعيد ميلادهم الخامس والستين، وسط ضجيج يتصاعد كل عام، محوره سؤال تحوّل مع الزمن إلى عقدة: هل ما حدث في ذلك اليوم ثورة أم هو انقلاب؟ وهو يشبه سؤال "الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة" الذي قيل إن أرسطو أطلقه في غابر الزمان، وخلص منه إلى أن الأمرين صحيحان، إذ جاءت الدجاجة من البيضة كما جاءت البيضة من الدجاجة. ورغم مرور أكثر من ألفي عام على جواب أرسطو، ظل سؤاله ماثلاً أمام العلماء والفلاسفة، وجديد ما استجدّ أخيرا في هذا الصدد ما قاله علماء من جامعة كوينزلاند الأسترالية من أن الدجاجة والبيضة ظهرتا معا في آن واحد.

المعضلة نفسها حملها سؤال العراقيين الذي تحول الى عقدة حملت صيغتي "الثورة" و"الانقلاب" معا منذ الساعة التي أذاع فيها العقيد عبد السلام عارف البيان الأول من راديو بغداد، وأعلن فيه نهاية النظام الملكي وولادة الجمهورية العراقية. وعارف أحد ضابطين كبيريْن تزعّما الحراك العسكري، دخل بغداد على رأس قوة مهمتها العبور الى الأردن للتمركز هناك، لكنه انعطف نحو القصر لينفذ ما خطّط له تنظيم الضباط الأحرار الذي استلهم تجربة جمال عبد الناصر في مصر، وأراد استنساخها في العراق على وقع سياساتٍ خاطئةٍ اتخذتها الحكومات المتعاقبة آنذاك، استغلتها المعارضة لتحشيد رأي عام يتطلع إلى الإصلاح والتطوير. والضابط الكبير الثاني هو الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي كان مرابطاً على رأس قوة معسكرة بالقرب من بغداد، وأصبحت مهمّته حماية ظهر الأول وإسناده عند الضرورة، ووراء الاثنين "تنظيم الضباط الأحرار" وجبهة الأحزاب الخمسة الساعية إلى التغيير، والتي ائتلفت في "جبهة" من أجل ذلك.

لم يجر التغيير المطلوب على نحو سلمي، إذ حدث في الساعة نفسها أن أجهزت ثلّة من العسكر على أفراد العائلة المالكة عند استسلامهم عند بوّابات القصر، وأبادوهم في "مقتلةٍ" لم يشهد مثلها العراقيون من قبل، وإنْ هناك من يزعم أنّ أهل العراق اعتادوا قتل ملوكهم!

أجهزت ثلّة من العسكر على أفراد العائلة المالكة عند استسلامهم عند بوّابات القصر، وأبادوهم في "مقتلةٍ" لم يشهد مثلها العراقيون من قبل

قُتل أيضاً صانع سياسة العراق الموالية للغرب، نوري السعيد، وهو الذي شكّل معظم وزارات العهد الملكي، وكان يعتقد أن لا أحد يستطيع إطاحة نظام بلده، لأن "دار السيد مأمونة" كما قال في آخر خطاب له، وعُرف عنه أنه حذّر خصومه مرّة من أنه إذا نجح انقلاب في العراق فلن يسلم أحد من عواقبه التي قد تصل إلى حدّ امتهان كرامات الناس، وحتى انتهاك أعراضهم، وصدقت نبوءته! كذلك قتل آخرون ليس لهم في الأمر ناقة ولا جمل، لكن الأقدار وضعتهم في المكان الخطر خطأ.

شكّك كثيرون في أن "الثورة" التي أرادوها لم تكن هي التي حدثت الساعة، إنما هي "ثورة" غيرها، لكنهم كظموا غيظهم بأمل أن تصحّح الأيام ما اختلط عليهم فهمُه، ولم ينتظروا طويلاً حتى تيقّنوا أن ما جرى وضع السلطة في أيدي "العسكريتاريا" التي ما حكمت بلدا إلا وتحكّمت فيه، وأحالته خرابا. والاستثناءات نادرة، وبدلا من الشروع بخطواتٍ تضمن إقامة نظام ديمقراطي سليم يحترم الإنسان العراقي، ويضمن حقوقه الأساسية، اشتدّ الصراع بين قادة العسكر أنفسهم على المناصب والامتيازات، وتبادلوا المكائد والمؤامرات، واتّسم أداء أحزاب "الجبهة" الموالية لهم بالقصور وعدم النضج، وبالجهل في قراءة اشتراطات المرحلة، وارتكب رجالُها أخطاء وخطايا لا يمكن غفرانها، مارسوا العنف ضد خصومهم، ونصبوا الفخاخ بعضهم للبعض الآخر. وعلى مدار عقود هجينة، كان قدر العراقيين أن يتنقلوا بين انقلاب وانقلاب، واصطبغت أرض الوطن بالدم، ولم تعد "الجمهورية" تعني لهم شيئا، كما لم يعودوا يأمنون على أنفسهم وأسرهم وأعمالهم، وغابت فاعلية الطبقة المتوسّطة قائدة التحوّلات الاجتماعية، وتحوّلت المدن المتحضرة إلى أرياف لا تمتلك من خصائص التقدّم والنهوض شيئاً.

وبعد عقود من المرارة والمعاناة، كفّ العراق عن أن يكون دولة قوية وفاعلة ومهابة، فقد تقلصت أرضه، وتشرّد الملايين من أبنائه، وتآكلت ثروته، وجفّت مياهه، وانتهكت سيادته، وصودر استقلاله، وتسيّدته طغمة من الأفاقين والطفيليين والجهلة وناهبي المال العام لتحوّله إلى دولة فاشلة، لا حول لها ولا طول!

وهكذا، ثمّة القليل ممن يجرؤ اليوم على الاعتراف بأنّ رياح ثورة/ انقلاب 14 تموز 1958 أخذتنا من حيث لا نعي إلى هوّة سحيقة ليس لها قرار.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"