عصام العطّار... شخصية وطنية بمرجعية إسلامية
عقودٌ طويلةٌ تفصلنا عن الخمسينيات والستينيات. ومنذ السبعينيات حَكَمَ سورية نظامٌ ديكتاتوري لم تخرج منه بعد. ومع رحيل عصام العطّار (الثالث من مايو/ أيار الحالي)، هذه القامة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية، كان لا بدّ من العودة إلى خُطبه، وحواراته النادرة، وإلى مقالاتٍ تناولت سيرته وأفكاره وحياته المديدة (97 عاماً)، وإلى أثر اغتيال زوجته فيه (1981)، وهو اغتيال كان يستهدفه بالذات، في زمن قُتِل فيه صلاح الدين البيطار (1980)، أحد مؤسّسي حزب البعث في سورية، المنفي من سلطات دمشق، وقبله وبعده آخرون.
وُلِدَ في 1927، ونشأ في ظلّ العداء للاحتلال الفرنسي، والده سليل عائلة شافعية، وخطيب متفقّه، وعالم حديث، وقاضٍ. ورث عن أبيه نزعةً وطنيةً ترفض الاحتلال، وطبعاً، ورث المرجعية الإسلامية وحبّ الدعوة إلى الإسلام، ولم يكن تنظيم الإخوان المسلمين قد ظهر حينها. انتسب إلى جمعية شباب محمد، التي كانت تُعنَى بالواقع وبأحوال السياسة على أرضية إسلامية، وتكوّنت، كما تكوّنت تنظيمات قومية وشيوعية ووطنية، استجابة لتحدّيات كبرى حينها؛ الاحتلالات، والمنظمات الصهيونية في فلسطين، وضعف البرجوازية التقليدية. هذه الجمعية كانت إحدى القوى التي تشكّل منها "الإخوان المسلمون" في ما بعد (1945)، وكان للعطار دورٌ مركزيٌّ فيها، وبالتالي، يُعدّ من مؤسسيها الأوائل، مع مصطفى السباعي وآخرين.
رفض العطّار طريق العنف لتغيير النظام في الثمانينيات، ورَفَضَهُ في 2011 بشكل جازم
برز خطيباً مفوّهاً، وترقّى سريعاً في العمل الإسلامي السياسي والدعوي ولمّا يتجاوز الثلاثين من عمره، فكان في قيادة جماعة الإخوان المسلمين، واختير بحضور علماء كبار وساستها الإسلاميين في سورية: محمد مبارك، ومعروف الدواليبي، ومصطفى الزرقا، وآخرين، ليكون أميناً عاماً لهيئة المؤتمر الإسلامي في سورية. جعلته مساهمته في تشكيل "الإخوان" على اطلاعٍ دقيقٍ على الحياة السياسية في سورية، وعلى معرفة وثيقة بكل رجال السياسة حينها، التقليديين والحداثيين، عدا أنّه تعرّف إلى ميشيل عفلق، حين كان في مدرسة التجهيز الأولى (مدرسة جودة الهاشمي) في دمشق، وكان عفلق مُدرّساً فيها، وتوطّدت بينهما علاقة وثيقة، كما توطّدت علاقته بالشيخ علي الطنطاوي (تحدّث الأخير في إحدى المناسبات، فخالفه العطّار الرأي، وأعجب الطنطاوي بهذا الرأي، فدعا العطّار إلى المنبر، وامتدّت صداقة بينهما مدى الحياة، وتزوّج العطّار ابنة الطنطاوي التي اغتيلت لاحقاً).
امتلك العطّار معرفة واسعة بالأجواء السياسية، واطلاعاً جيداً على الثقافتين الأوروبية والعربية حينها، ولكنّه اختار العمل السياسي الإسلامي أولاً، ولكنّ تعقيدات هذا العمل وما لمسه من براغماتية فيه، دفعته إلى تفضيل العمل الفكري والعلاقة المباشرة مع الشعب، وإن ظلَّ في تنظيم "الإخوان" حتّى 1973. كانت لديه أربع قضايا تنظّم سلوكه، ويدعو إليها، فأصرّ على أنّ الإسلام هو الأصل، والأحزاب والجماعات والاتحادات والتنظيمات والمراكز الإسلامية، كلّها، وسائل. أمّا الأخوّة فهي في الإسلام وليس في التنظيم، و"نحن جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين". وأخيراً، التعاون أوّل الواجبات، ويجب أن يبدأ التحوّل من أنفسنا، أولاً. رَفَضَ تقلّد المناصب الوزارية لأسباب متعدّدة بعد الانفصال (نهاية الوحدة المصرية السورية) عام 1961، وبعد انقلاب 1963. كان العطّار وحدوياً، وكانت الوحدة بين الأقطار العربية بالنسبة إليه حلماً، ولهذا، ورغم انتقاداته الوحدة، حين تشكّلت وفي أثناء حكمها وعند فضّها، رفض التوقيع على وثيقة الانفصال، واعتَبر الوحدة أكبر من أخطائها، وكان يقول إنّ كلّ إسلامي لا بدّ أن يكون عروبياً بمعنىً ما، ويؤكّد ألا تناقض بين الإسلام والعروبة، ولا سيّما أنّ القرآن مكتوبٌ باللغة العربية، وبالتالي، يَستغرب دعوة التفريق بين الأمرين. ولهذا، لم يستسغ تأسيس الحركات القومية انطلاقاً من الفلسفة الأوروبية القومية، وفضّل أن تتأسس على التاريخ العربي. ولن تسهب هذه السطور في ما هو معروف عنه، وكيف صار رئيسَ الكتلة البرلمانية في مجلس النواب، وكيف رفض التوزير، وكيف فُرضت عليه الإقامة الجبرية، وإن لم يتقيد بها، وكيف كان الوحيد الذي لم يعتقله نظام البعث بعد انقلاب 1963، وكان حينها يهاجم النظام من على منبر مسجد الجامعة، ورفض كلّ أشكال الديكتاتورية، وأكّد على ضرورة العودة إلى النظام الديمقراطي.
حين اعتُقل قاتل زوجة العطّار لم يرفع في حقّه دعوى، وخاطب الثورة السورية بقوله: "إياكم والانجرار إلى العنف أو الشدّة"
رفض العطّار طريق العنف لتغيير النظام في الثمانينيات، ورَفَضَهُ في 2011 بشكل جازم، ودعا النظام إلى الإصلاح سريعاً، وكان يدعوه إلى ذلك من قبل، وأكّده لموفَد الرئيس حافظ الأسد، رافضاً تلبية أيّ طلبات شخصية، مشترطاً العودة إلى النظام الديمقراطي وإطلاق الحرّيات. ومن هنا، ورغم أنّ الوزيرة في نظام الأسد نجاح العطّار شقيقته، إلا أنّه أكّد أن لكلّ منهما توجّهاته وحياته الخاصّة. تمسّك بمسألة السلميّة إلى الحدود القصوى، وحتّى حينما اعتُقل قاتل زوجته لم يرفع في حقّه دعوى، وخاطب الثورة السورية بقوله: "إياكم والانجرار إلى العنف أو الشدّة". وللدقّة، لم يكن وحيداً في هذا، فقد اتخذ الموقف ذاته كثيرون من المثقّفين السوريين في 2011، ومن أبرزهم الطيب تيزيني، والمعتقل منذ عام 2012 عبد العزيز الخيّر، وعارف دليلة، وآخرون كُثر. وثَمّن العطّار الديمقراطية طوال حياته، فرغم موافقة تنظيمه على حلِّ نفسه، شرطاً من شروط جمال عبد الناصر لإجراء الوحدة، ظلَّ ينتقد جوانبها غير الديمقراطية، ويتطابق في ذلك مع موقف المُفكّر السوري إلياس مرقص، كما انتقد قبل ذلك القمع في مصر، ورأى أنّ النظام الديمقراطي يهيئ لحياة جديدة ولفرصٍ متساوية لجميع الأفراد، ويشير في معظم حواراته في إطار المراجعات على قناة الحوار الفضائية، إلى كلّ من الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، وأنّ الأخيرة تتيح لكلّ أفراد المجتمع الحقوق والواجبات ذاتها، وهو يعني بذلك أنّ السياسة يجب أن تنفصل عن الدين، وأنّ الأخير مرجعية أخلاقية للسياسيين، وبالتالي، يرفض كلّ نظام سياسي ينطلق من الدين، وقد كان له، ولمصطفى السباعي، دور في التأكيد، وبالضدّ من أغلبية علماء سورية في الخمسينيات، على أنّ دين الرئيس هو الإسلام، والفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع، وربّما كان ذلك الموقف بسبب حدّة الخلافات حينها، بينما كان يُفضِل ألّا تكون تلك المادة الدستورية بهذه الإلزامية للتشريع أو للرئيس ذاته. إنّ تأييده للديمقراطية يعني رفض كلّ شكل من أشكالها: جمهورية أو ملكية، وإسلامية كذلك. وحين يشير إلى الهويّة السورية، يقول إنّها عربية إسلامية؛ فالهويّة هذه "من حقائق التاريخ والواقع"؛ طبعاً، يَردُّ هنا على المتغربين بصفة خاصّة، ويريد التأكيد على خصوصية المجتمعات، وأنّ لكلّ مجتمع على الكرة الأرضية هُويته التاريخية، والمستمرّة، وطبعاً هذا ليس دقيقاً في مجمله، فالهوية والحضارة، وكلّ أشكال الثقافة متطوّرة، ومتداخلة بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال، والعالم يتبادل علومه وثقافاته، وليس فقط علاقاته الاقتصادية والسياسية، ويحدث التغيير بالتدريج، وضمن ذلك يتأثّر الحاضر بالماضي، ولكنّه يختطّ لنفسه هُويّة تتطوّر وتتغيّر باستمرار.
لم يكن العطّار إسلامياً ونقطة، بل كان يرى الإسلام ذاته ذا أبعاد وطنية وإنسانية، ولكنّه بوصفه إسلاميّاً عربيّاً، يرى أنّ للإسلام أبعاداً قوميةً كذلك، ومن هنا، لا يعتقد بإمكانية التنمية في قطر من الأقطار منفرداً، بل لا بدّ من التعاون بين الدول العربية، ولا سيّما أنّ المخاطر كبيرة، والتدخّلات الغربية قوية للغاية، ولكنّ ذلك لا يمكن تحقيقه من دون التحوّل الديمقراطي، وإقامة المشاريع العربية المُشتركة؛ وهو منظار أقرب للرؤية القومية المنفتحة. ولهذا، أكّد أنّه يجب أن تكون للإسلاميين أهداف أكبر من سورية، ولا بد للتغير أن يكون عميقاً وعلى أسس قوية. طبعاً، ليس المقصود هنا تقديم المنظار الأممي الإسلامي على السوري. حذّرَ منذ الأيام الأولى للثورة السورية من الانجرار نحو الطائفيّة أو الصراعات الطائفية، فهي ستكون كارثة على الجميع، وتوافق بذلك مع الشعارات الأولى للثورة: "لا سلفية ولا إخوان، ثورتنا ثورة شجعان"، وكأنّه كان يخشى أن تتجدّد حرب الثمانينيات، التي لم يتم تخطيها من قبل النظام أو الإسلاميين الجهاديين، أو من المجتمع بعامةٍ، وبالتالي، من السهل أن تُستعاد، وهو ما جرى بالفعل، وقد ساهمت في ذلك كافة القوى وعلى رأسها النظام. لقد تجاهلت تلك القوى دعوة عصام العطّار، وشعارات الثورة، وأغلبية التيار الحداثي في سورية. ولم يمض العام الثاني للثورة إلّا وتوسعت التنظيمات والجماعات الإسلامية في سورية، ولم ترفضها المعارضة بشكل حازم، بل ساهمت بسياساتها الفوضوية والعشوائية في تمدّدها على أرضية: كل من يحارب النظام هو جزء من الثورة، فاعتُبرت "النصرة" جزءاً من الثورة، وتَمثّل "جيش الإسلام" و"أحرار الشام" في هيئات المعارضة (!)
كان العطّار ديمقراطياً بامتياز، ورجلَ دولةٍ من طرازٍ رفيعٍ، وإسلاميّاً عنيداً، لكنّ الشروط المُعقّدة لسورية في الخمسينيات والستينيات لم تسعفه
لم يتوسّع في شرح أسباب خلافه مع قيادة "الإخوان المسلمين"، فلقد كان من مؤسّسي الجماعة في سورية، ولاحقاً، المراقب العام الثاني لها منذ 1964 إلى 1973، وأُبعد واتهم بالفردية والديكتاتورية (!) وجرى تعيين الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة بديلاً منه، وبضغطٍ من أجنحةٍ فيها، وفَضّل هو ذاته الابتعاد، إذ بدأت تلك الأجنحة بتمزيق الحركة، بين الحلبية والحموية والشوام، وسواهم. الأجنحة تلك، تعبّر عن مناطقية، وتمثّل تراجعاً في تمثّل القيم الإسلامية والوطنية، وبالتالي، لم يجد لنفسه مكاناً في التنظيم الذي ساهم في تأسيسه. ظلّت الحركة قريبة من روحه، وحينما أصدر النظام المرسوم رقم 49 لعام 1980 بإعدام كلّ فرد انتمى أو ينتمي لـ"الإخوان"، انبرى للدفاع عن "الإخوان" باسم المراقب العام، وكأنّه ما زال مُراقباً، رغم قطيعته معهم عملياً وسياسياً، وهذا دلالة على شهامته وجرأته ومكانة "الإخوان" لديه، ورفضه الحاسم الديكتاتورية. أيضاً لم ينتقد تحالف "الإخوان" مع عبد الحليم خدّام في 2006، ولم يشارك في أيّ تشكيلات سياسية ثورية بعد 2011، ولم ينتقد، علانيةً، تطوّرات العمل الإسلامي السياسي في سورية، ولا مواقف الإخوان فيها، ولم تكن له قراءات عن التنظيمات الإسلامية الجهادية والسلفية. كان يرفض فقط ممارسات "داعش" بصفة خاصة، وهذا مستغربٍ من رجل عُرِفَ عنه المجاهرة، والإقدام، والنقد بالقضايا السياسية. بكلّ الأحوال، عاش حياته بأكملها بين الإسلاميين، والدعوة للإسلام، ولا سيّما بعد أن ترك العمل التنظيمي في 1973، وشارك في تأسيس عشرات الاتحادات والمنابر في أوروبا، وساهم في رعاية شؤون المسلمين هناك، وبالتعاون مع شخصيات إسلامية، سورية وعربية وأجنبية.
كان عصام العطّار ديمقراطياً بامتياز، ورجلَ دولةٍ من طرازٍ رفيعٍ، وإسلاميّاً عنيداً، لكنّ الشروط المُعقّدة لسورية في الخمسينيات والستينيات لم تسعفه، كما لم تسعف سواه؛ لقد أَجهزَ النظام الديكتاتوري ومنذ 1963 على الحياة السياسية، وعلى الساسة من مختلف القوى السياسية: إسلاميين، وليبراليين، وبعثيين، وماركسيين، وإن تحالف النظام، بعد "الحركة التصحيحية"، مع جماعات من تلك القوى، إلا أنّ الحصيلة كانت نظاماً عائليّاً لمصلحة عائلة واحدة، وظّفَت كلّ الأيديولوجيات والقوى السياسية والجماعات الأهلية، وقمعت من رفض ذلك من أجل تثبيت سيطرتها وتأبيدها، وما زالت تحاول؛ نعم إنّ سورية تفتقد رجالاً أمثال هؤلاء.