عسكريون بلا عسكرية

29 ابريل 2023
+ الخط -

يطلّ "الفريق أول" محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، في مداخلات هاتفية منذ إعلانه التمرّد على الجيش السوداني قبل أيام، مدليا بتصريحات ومتحدثا عن خطط وتحرّكات ومعارك تخوضها قواته، وكأنه الجنرال أيزنهاور في زمانه، لكن الفارق أنه يشنّ الحرب على مواطني بلده وجيشها.

قد يشعر كثيرون بالدهشة والغضب من هذا الوضع البائس، الذي جعل شخصاً لم يكمل تعليمه يحصل على هذه الرتبة المتقدّمة في الجيش، لكن الحقيقة أن ذلك تكرّر كثيراً خلال العقود الماضية في الدول العربية منذ أن ابتليت بحكم العسكر، فقد وصل إلى تلك الرتب المتقدّمة ضبّاط لم يستحقوها مطلقا، ولم يخوضوا معركة واحدة في حياتهم، فمنهم من قفز عدة مراتب حتى تبوأ أعلى المناصب العسكرية في بلاده، ومنهم من لم يتحصّل على أي خبرة عسكرية تؤهله لارتقاء موقعه. كان هذا في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لكننا وجدنا، في العقدين التاليين، عسكرا عربا كثيرين يتمادون في وقاحتهم، ويمنحون أنفسهم أعلى الرتب، رغم تلقيهم هزائم عسكرية، والشيء نفسه حدث مع ضبّاط ارتكبوا مجازر ضد شعوبهم، فقرّروا أن ما اقترفوه يستحقّ أن ينالوا بموجبه وسام البطولة والشرف!

كان "المشير" عبد الحكيم عامر، أحد أوائل من ابتدعوا هذه الظاهرة، فقد ترقّى، أو رقى نفسه، من رتبة رائد في الجيش المصري، إلى مشير دفعة واحدة، كما كان يُفترض فيمن ينال تلك الرتبة، التي تساوي "فيلد مارشال" في الجيوش الغربية، أن يكون قد خاض حرباَ وانتصر فيها، لكن المفارقة أن عامر حصل على تلك الرتبة بعد عامين من الهزيمة العسكرية التي تلقّاها في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. لم يبذل عامر أي مجهود لاستدراك العلوم العسكرية التي فاتته، وكان يُفترض أن يحصّلها في أثناء ترقيه الطبيعي، وبذلك انقطعت صلته بالعسكرية، أو فقد اتصاله بالعلم العسكري، على حد وصف الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري في أثناء حرب أكتوبر 1973، وحتى الهزيمة الثانية التي قضت عليه نهائيا عام 1967. وروى المؤرّخ العسكري وأحد الضباط الأحرار، اللواء جمال حماد، قصة لقاء ذي مغزى، جمع بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، و"المشير" عامر من جهة، والفيلد مارشال برنارد مونتغمري، قائد القوات البريطانية في معركة العلمين، في أثناء زيارة الأخير مصر في مايو/ أيار 1967، بمناسبة مرور ربع قرن على المعركة التي غيّرت مسار الحرب العالمية الثانية. يقول حمّاد إن عبد الناصر قدّم عامر إلى مونتغمري قائلاَ: "أعرّفك بفيلد مارشال عبد الحكيم عامر"، فسأله مونتغمرى: "في أي حربٍ حصلت على اللقب؟"، فلم يعرف عامر جواباً.

وصل إلى الرتب المتقدّمة ضبّاط لم يستحقوها مطلقاً، ولم يخوضوا معركة واحدة في حياتهم

غرباً من مصر، تأثر ضابط شاب برتبة ملازم بحركة الضباط الأحرار التي قضت على الملكية في القاهرة، ليقرّر تأسيس تنظيم، استطاع الانقلاب على الملكية وإعلان الجمهورية. لكن التأثر بمصر يبدو أنه امتد إلى الرتب العسكرية، إذ قرّر معمّر القذافي ترقية نفسه مثلما فعل عامر، لكنه كان متواضعاً واكتفى بـ"العقيد". لكن حمّى الألقاب تطوّرت مع الأخ العقيد بمرور السنوات حتى أعلن نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، بالإضافة إلى ألقاب أخرى يصعب حصرها في هذه المساحة. وشهدت ليبيا كذلك مسخرة من رائحة الأخ العقيد، تمثلت في "المشير" خليفة حفتر، الذي تلقّى هزيمة ساحقة وتعرّض للأسر في أثناء الحرب مع تشاد عام 1987، فلجأ بعد إطلاق سراحه إلى الولايات المتحدة وحصل على جنسيتها، ثم عاد إلى ليبيا واشتهر بلقب "اللواء المتقاعد"، قبل أن يقرّر برلمان طبرق، المنتهية ولايته منذ سنوات، منحه رتبة مشير، رغم عدم انتصاره في أي معركة خارجية، اللهم إلا نجاح مليشياته في السيطرة على مدينة بنغازي، قبل أن يتكرّر فشله الذريع في معركة طرابلس عام 2020.

انتقلت العدوى إلى بعض الجماهير العربية المتعطشة للألقاب التي تحمل معنى الفخامة والهيبة، فقد انتشرت تدوينة على مواقع التواصل، زعم كاتبها إن الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين حمل "أعلى رتبة عسكرية في العالم"، وهي "مهيب الركن"، من دون أن يوضح صاحب التدوينة كيف حصل الأخ المهيب، على غرار الأخ العقيد، على تلك الرتبة، وكيف قرّر من تلقاء نفسه أنها الأعلى في العالم. والحقيقة أن حال صدّام كان مثل غيره من الجنرالات الذين تحدثنا عنهم، فقد منح نفسه هذه الرتبة، رغم خلفيته المدنية، إذ لم يتلقّ أي دراسة عسكرية ولم يتدرّج في صفوف الجيش. وهو ما جرى للدكتور بشار الأسد، الذي التحق بالجيش برتبة نقيب بعد مصرع شقيقه باسل، ولي العهد المفترض، ليصبح قائد الجيش برتبة فريق في ظرف سنوات قليلة.

كل هذه الحالات، وغيرها الكثير، تقول إن ما يجري في السودان حصاد طبيعي لحكم العسكر، فقد أدّت هذه الحقبة إلى الاحتلال في العراق، والحرب الأهلية في سورية، والاقتتال في ليبيا، والعشرية السوداء في الجزائر، والاستبداد في مصر. وطالما لم يجد هؤلاء من يردعهم، سيستمرون في قيادة شعوبهم إلى مزيد من الكوارث.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.