عرس الأردن: المكانة والسمعة والمضمون
لم يخترع الأردنيون المعاصرون علاقتهم مع الأسرة المالكة، بل كانت حصيلة تاريخية لمشروع النهضة العربية بالشرق العربي الذي حملت حكوماته وجيشُهم اسمه، كما أنهم لم يكونوا يوما يعرّضونها للاختبار واستطلاعات الرأي، وإنْ كان الحديث دوماً عن تراجع في شعبية الحكومات والثقة بالمؤسّسات، لكن المؤسسة الملكية كان تحضر في خلفيات نضوب الثقة والغضب الشعبي الذي مرّ على الأردن، كما مرّ على غيره من الدول في آخر عشر سنوات، وترك بعضها حطاما وانقساما ودموية، فيكون التدخل الملكي عادة حاسما وقاطعا لكل موجبات الغضب أو الاحتقان، بمعنى أن الملكية لا تحكم، لكنها تتدخّل في أحلك الظروف لضمان التوازن والاستقرار، وهكذا يرى الأردنيون الحكم الهاشمي، ضمانةً مفتوحة لاستقرار بلدهم.
وقد حظي الحكم في الأردن منذ تأسيس الدولة بإجماع الأردنيين عليه، كخلاصة سياسية لزمن التسويات الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وظلّ الأردنيون فيها أوفياء لفكرة العروبة التي حمل لواءها الحسين بن علي ملك العرب وشريف مكة وخليفة المسلمين بعد عام 1924. وبرغم تجربة طويلة تمتدّ قرنا أو أكثر، لم تكن تجربة البناء الوطني بلا أخطاء، أو بلا معارضات وطنية، أو ظروف حرجة، لكن الدم لم يكن في قاموس الحكم، بل تغلّب الصفح والمروءة والكرم على الغضب والبطش والاستبداد، حتى الذين أرادوا أن يحبّوا الملك أكثر من حبّ الملك نفسه وبلده وعرشه، كان الملك يُعقل عليهم ويتجاوز بمحبّتهم إلى ضرورة حثّهم على ترجيح العقل والصفح. هنا يذكر الناس قصصاً عن الراحل الملك الحسين، ومنها إخراجه المعارض الراحل ليث شبيلات من السجن بسيارته وأخذه إلى بيت والدته. كما يتذكّر الأردنيون قول صبية لرجل أمنٍ إبّان حظر التجوال في أثناء وباء كورونا: "أبوي عندي أحسن من الملك"، فغضب رجل الأمن وبدأت السلطات الأمنية يومها بإجراء عقابي للصبية، وثارت القصة على وسائل التواصل الاجتماعي، فما كان من الملك إلا أن اتصل بالصبية وقال لها: يجب أن يكون والدك عندك أغلى من الملك وحياها على منطقها، وأوقف كل الإجراءات كونها مغلفة بالحرص على محبّة الملك بالتهديد بالقانون، وهي غير مريحة له ولمنطقه في الحكم.
الذي قرّر شكل حفل زفاف ولي العهد وبرنامجه ومضمونه، موقع العائلة المالكة محلياً من مجتمعها وعلاقتها به، وكذلك سمعة الأردن
ليست تلك حوادث أو وقائع حصرية، ففي الأردن تجد المعارضة نفسها، ولها نفوذ وتصل إلى المواقع العليا، وترى الملك ربما أكثر من خط الموالاة العريض. وفي الأردن مجتمع مستقرّ، غير منقسم طائفيا أو عرقيا، لكن فيه القبيلة والعشيرة، وهو أمر تبدّى في زفاف ولي العهد الحسين بن عبدالله أخيرا، حيث استعاد الحكم فكرة مضارب بني هاشم والسيف الهاشمي، في موازاة العادات والتقاليد الأردنية البسيطة والغنية بقيمها (إحياء فكرة الحنّاء، وحمام العريس واللباس العربي وزفة العريس ... إلخ)، لتُعبّر الدولة، مجتمعا وحكماً، عن شكلها وتقاليد العائلة الملكية فيها، وهي أمور لا تتعارض مع السعي الحثيث إلى تحديث المجتمع وتطويره ومعالجة أوجه الخلل فيه وفقا لأحدث الأساليب وسلطة القانون.
لم يكن الأردن الرسمي هو الذي قرّر شكل الاحتفال بزفاف ولي العهد، بل إن الذي قرّر شكل الحفل وبرنامجه ومضمونه، موقع العائلة المالكة محليا من مجتمعها وعلاقتها به، وكذلك سمعة الأردن والحكم عربيا وإقليميا وعالميا. وهو أمر انعكس على قيمة (ومعاني) الحضور الذي أراد منه الملك عبدالله الثاني إظهار مزايا بلده وعلاقته مع شعبه والقيمة الخاصة بالأردن، ليس بوصفه دولة قليلة الثروات المالية، بل بلد له مكانته بفعل ثرائه البشري واحترامه بين الدول.
صحيح أن العرس كان مريحا للجميع، ووفّر فرصة للتعبير في معانيه عن مصاهرةٍ لم تكن بعيدة عن التفسيرات السياسية، بوصفها تمكينا للعلاقات الأردنية السعودية، لكنه أيضا فرح أظهر محبّة الناس ولي العهد الشاب، واحترام الأسرة المالكة الأمير الحسن بن طلال عم الملك الذي وقّع شاهدا على عقد الزواج بوصفة كبير العائلة وموجّهها.
أما قوائم المدعوين من الخارج، فهم كثر، وقد حضر رؤساء دول وملوك ووزراء وأمراء وقادة مؤسسات مالية، كما حضر بعض من أهل الفكر والأدب من مختلف الدول، هؤلاء تلقّوا بطاقات دعوة وجاءوا ضيوفا إلى الأردن، لكنهم بعددهم وبمواقعهم مثّلوا حضورا لافتا لم يعرفه الأردن إلا عند وفاة الراحل الملك الحسين، ما يعني قدرة الأردن على توظيف مناسبة العرس لإظهار قيمة البلد والدولة في مستوى التأثير والاحترام العالمي.
عرس الأردن سيكون بمثابة تجديدٍ للتاريخ وخطوط السياسة وتثبيت لقواعد السمعة الدولية للأردن وقيادته وشعبه
مثّل ذلك كله نتائج وتوقّعات، لكنه لم يخلُ من إظهار عناصر المنعة والقوة في البلد، والتي أظهرت رسوخ التقاليد وثبات مؤسّسة العرش في الأردن، وإجماع الأردنيين عليها، وتجاوزهم، في لحظة فرح ولي العهد، كل أسئلة الراهن الضاغط بالفقر والبطالة والجوع. وهو أمر قلما يحدُث بأن يؤجل شعب كامل أسئلته ومزاجه الغاضب ليشارك عائلته الحاكمة فرصة الاحتفاء والهناء والسرور، تلك حالة لا توجد ولا تتكرّر إلا في الأردن جرّاء طبيعة استثنائية للحكم والمكان والتاريخ والناس الأصلاء.
في الختام، إن عرس الأردن أو العرس الملكي أو فرحة الأردن بولي العهد الأمير الحسين والأميرة رجوة الحسين، لن يكون حدثا عابرا في تاريخ عائلة ملكية أو دولة لها مزايا الاستقرار والثبات والتنوّع والقدرة على التعامل مع الأزمات بعقلانية، وليس هو مناسبة خاصة بأسرة تحكُم دولة شحيحة الموارد في الشرق الأوسط الملتهب، بل سيكون بمثابة تجديدٍ للتاريخ وخطوط السياسة وتثبيت لقواعد السمعة الدولية للأردن وقيادته وشعبه، وهو إظهار للدولة المتجدّدة بولي عهدها الذي هو حُكما ملك في المستقبل، ولعلاقة الشعب مع الحكم، بالإضافة إلى أنه عكس مظاهر القوة الاجتماعية التي يتميز بها الأردن. وعندما نقول القوة الاجتماعية، نحن نتحدّث عن مكوّنات المجتمع، وظرفيات التشكّل التاريخي التي ميّزها وأظهرها الحفل من خلال الفرق الغنائية والسماح لمختلف أشكال الفن الشعبي (السامر والدّحيّة والدبكات) بالتعبير عن فرحتها، هذا بالإضافة إلى قوائم الطعام الأردني التي قُدّمت في حفلات العشاء، والتجهيزات الدقيقة التي رافقت العرس الملكي وصُنعت في الأردن بأيادٍ وطنية.