عدوّ عدوّي ليس صديقي

09 فبراير 2022

(جميل ملاعب)

+ الخط -

كلما كبرت الخسارة صار خطاب المهزوم ضحلاً في أحيان عديدة. إما يتجه نحو البكائيات وما يترتب عليها من شعور أقلوي لا يرى في العالم إلّا متواطئاً ضد قضيته المحقة، أو يطلق سباقاً للبحث عن أعداء عدوّه لينشد تحالفاً معهم بغض النظر عن جدوى التقرّب من هؤلاء وعن سوية هذا الموقف أخلاقياً وسياسياً. أما الاعتراف بالأخطاء وبمصائب داخل البيت أدّت إلى الهزيمة أو ساهمت في ما ابتلينا به، فإنما ذلك يبقى السلوك الأصعب مع أنّه وحده المفيد. في المنطقة العربية أمثلة كثيرة عن رجعية نظرية "عدوّ عدوّي صديقي" ولا أخلاقيتها، ومسؤوليتها عن جزء من مصائب شعوب بلداننا. فصائل فلسطينية عديدة تكفلت بجعل كثيرين كانوا معنا في العالم، ضدنا، أو يسلكون أول الطريق الذي ينتهي بمعاداتنا أو بأحسن الأحوال لا يكترثون بقضيتنا الاستعمارية التحررية. عبر التصاقهم بحكام إيران وبقية أفراد العائلة الأسدية الحزباللهية، يغرز فلسطينيون كثر في الجرح الفلسطيني عميقاً. "شواذ الأمة"، بحسب القيادي في حركة حماس محمود الزهار، هم الذين أحرقوا صور قاسم سليماني مثلاً. إن استسلمنا إلى حسن النية وحدها (وهذا صعب) في تفسير الإهانة التي نطق بها الزهار، يكون الجواب أنّ عدوّ (نظام إيران والآخرون) عدوّي (إسرائيل) صديقي. ولشعوب عربية عديدة ارتكبت بحقها مجازر في موجة الانتفاضات العربية، نسخها الخاصة من هذه النظرية السقيمة، فمن بينهم من مدّوا اليد إلى كلّ شياطين الأرض للتخلص من شيطانهم المحلي. أما في مصر، فتلك المقولة عن الصداقة المربوطة مع عدوّ العدوّ تعرف ولادات متجددة في كل مرة يحتدم السجال بين شيخ الأزهر أحمد الطيب وسلطات عبد الفتاح السيسي والناطقين باسمه. قبل أيام، نبشَ إعلام السيسي كلاماً لشيخ الأزهر عمره عامان ونصف العام عن "شروط" ضرب الزوج زوجته و"ضوابطه" كمباح استثنائي وليس كفرض ولا كواجب شرعي! كلمات ممتدة على دقائق 12 لا يقلل من فداحتها كلّ ما يمكن استحضاره من حجج وأسباب تخفيفية.

قيل إنّ إعادة إحياء التصريح يحصل لأهداف تكتيكية في سياق خلافات الطيب والسيسي التي تختصرها المقولة الشهيرة للرئيس المصري: "تعبتني يا فضيلة الإمام". هذا صحيح وطبيعي، فلا تمّت فبركة كلام للطيب ولا تم تزويره. تردّد أيضاً أنّ إعادة بث كلام الطيب اليوم هدفه تقوية معسكر المؤيدين لتغليظ العقوبات على الزوج الذي يضرب زوجته، وهذا صحيح أيضاً ومحمود. أما موقف الطيب الذي يقول فيه إنّ "العنف ضد المرأة دليل على فهم ناقص وجهل فاضح وقلة مروءة وحرام شرعاً" فإنّما هذا الكلام هو الذي يجب على شيخ الأزهر أن يختار بينه وبين تصريحه الذي أطلقه في يونيو/ حزيران 2019 حول شروط ضرب الزوحة "لعلاج نشوزها".

حملة دفاع معارضين إسلاميين عن شيخ الأزهر، لا تُفهم إلّا في سياقين اثنين: إما تأييداً لموقفه (إباحة الضرب بشروط وضوابط)، أو الإمعان في منطق النكاية بالنظام كتطوير لتفاهة "عدوّ عدوّي صديقي". لكنّ ما يتناساه أصحاب المذهب الثاني هو أنّ شيخ الأزهر لم يكن يوماً عدوّاً لنظام الانقلاب ولا بالتالي صديقاً للثورة المصرية. الرجل حثّ الشباب المتظاهرين، في 3 فبراير/ شباط 2011، أي في عز الثورة، على "التعقل"، لأنّ "الأحداث يُراد بها تفتيت مصر وتصفية حسابات وتنفيذ أجندات خارجية". أليس هذا نفسه كلام السيسي عن ثورة يناير؟ لقد وقف الطيب على يسار السيسي لحظة إعلان الأخير انقلابه، ولم تسجل له مواقف سياسية تقطع مع النظام منذ رفض إراقة الدماء في مجزرتي ميداني رابعة والنهضة. أما الباقي في أزمته مع السلطة، فعنوانه العريض صراع على المؤسسة الدينية الأهم، ويتفرّع منه خلافان فرعيان: خلاف أول على مشاريع قوانين من صنف تنظيم دار الإفتاء لجعله تابعاً إلى مجلس الوزراء، وتوسيع صلاحيات المفتي مقابل شيخ الأزهر. واختلاف ثانٍ حول قضايا رفض الطيب تكفير تنظيم "داعش" وأتباعه في مصر (!) ومعارضته مشروع السيسي اشتراط توثيق الطلاق وعدم الاعتراف بالطلاق الشفهي، ومحاولات تعديل قانون الأزهر لتحويله من مؤسسة إسلامية إلى هيئة اجتماعية تعليمية.

إن كانت نظرية عدوّ عدوّي صديقي بائسة، فكيف الحال لو أنّ صديقي هذا ليس عدوّ عدوّي أصلاً؟