عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟
لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في "مقاومة المقاومة" إلا مع انتعاش جنرال الحرب الصهيوني بيني غانتس سياسيّاً، وارتفاع حظوظه في الصعود، سواء كان وزيراً للدفاع في جيش الاحتلال، كما كان وضعه قبل ثلاث سنوات، أو كما هو الآن، عضواً بارزاً في مجلس الحرب الذي يشنّ العدوان على غزّة.
تترافق الحملة السياسية التي يشنّها محمود عبّاس وحزبُه الحاكم ضد مشروع المقاومة الفلسطينية مع تصعيد الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، بالتزامن مع كلام كثير عن قرب أفول شمس رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وتنامي فرص عضو مجلس الحرب، بيني غانتس، للنجاح في إزاحته.
علاقة رئيس سلطة رام الله وغانتس ممتدة لسنوات، ففي الثامن والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 2021، ذهب الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، إلى منزل وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، في تل أبيب بناء على استدعاء الأخير، حيث انعقد لقاء استغرق ساعتين، حسب بيان صادر عن مكتب وزير دفاع جيش الاحتلال، فيما قالت هيئة البثّ الإسرائيلي الرسمية إن عبّاس أكد لغانتس أولاً: استمرار أجهزة الأمن الفلسطينية في ملاحقة المقاومة بجنين والضفة. وثانياً: علمه بمخطّطات حركتي حماس والجهاد الإسلامي لإشعال الضفة. وثالثاً: أنه لا يمكن التنازل عن التنسيق الأمني تحت أي ظرف، وأن سلطته تسيطر على الوضع.
الآن، وبعد رحلة الجنرال غانتس إلى واشنطن ولندن، وعودته منتشياً بأفضلية على نتنياهو، برأي الولايات المتحدة وبريطانيا، وتزايد التسريبات عن سيناريوهات غزّة ما بعد توقّف القتال، وترتيبات السلطة التي تريدها إسرائيل فيها، ينهض عبّاس من سباته الطويل، مستأنفاً قصف المقاومة، وعلى رأسها "حماس"، مستخدماً الخطاب الصهيوني ذاته الذي يحمّلها المسؤولية عن إراقة دماء زهاء 32 ألف شهيد فلسطيني، ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزّة، حيث يتهم بيان حركة فتح، حزب السلطة الفلسطينية المدعومة إسرائيليّاً، بأنها خاضت ما وصفتها بمغامرة السابع من أكتوبر، التي قادت إلى نكبةٍ أكثر فداحة وقسوة من نكبة 1948، "ولم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية".
حماس، وكل فصائل المقاومة التي تخوض ببسالة ملحمة طوفان الأقصى للشهر السادس توالياً، متهمة من حكومة الحزب الحاكم (فتح) بأنها لم تشاورها ولم تبلغها ولم تنسّق معها بشأن المعركة قبل أن تبدأ، وهو اتهامٌ مثيرٌ للسخرية، كون هذه السلطة تقتات على التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، أو كما قال عبّاس للجنرال غانتس قبل ثلاث سنوات إنه "لا يمكن التنازل عن التنسيق الأمني تحت أي ظرفٍ ضد حركتي حماس والجهاد". وهذا يعني أنه كان مطلوباً من المقاومة أن تبلغ سلطات الاحتلال، عن طريق سلطة عبّاس، اعتزامها تنفيذ عملية طوفان الأقصى قبل أن تبدأ، وإلا فإنها بذلك، بحسب المنطق الفتحاوي، تشقّ الصفّ وتصنع الانقسام، وهي التهمة، أو النكتة، التي يتردّد صداها كثيراً في هذه الأيام.
إن أحداً لا يكره أن يكون هناك إجماع وطني فلسطيني، ولا يرفُض وجود تنسيق بين مكونات الشعب الفلسطيني كافة في مواجهة العدوّ المتربص، شريطة أن يكون هذا الإجماع التفافاً حول مشروع للمقاومة والتحرير، وليس التفافاً عليه، ومن أجل رصّ الصفوف ضد الاحتلال، وليس من أجل سلطةٍ تستمد وجودها من التنسيق أمنيّاً مع الاحتلال، وتشاطره العداء للمقاومة المسلحة، وتعتبرها مغامرة تجلب الكوارث على الشعب.
أما وأنهم يريدون إجماعاً ترضى عنه إسرائيل، فإن الانقسام هنا واجبٌ أخلاقي، وخصوصاً حين يكون هناك من يستكثر ويستنكر على شعبٍ يكابد ويلات الاحتلال على مدار 76 عاماً أن ينجب مقاومة وطنية قرّرت أن تدشّن طريقًا للكفاح من أجل التحرير، ثم لا يخجل بعضُهم من أنفسهم وهم يصفون الأمر بالمغامرة، وهم أنفسُهم الذين وصفوا أمّهات المقاومين قبل ذلك بالأمّهات الشاذات، ولا يطيقون أن يجدوا حولهم من يبذل روحه فداء وطنٍ أسير لا يتوقف عن ابتكار أساليبه المتفرّدة في الكفاح من أجل البقاء.
والحال كذلك، ليس "طوفان الأقصى" مغامرة متهوّرة، ولا قفزة في الفراغ، ولا هو مقطوع الصلة بما فات وما سوف يأتي، بل هو حلقةٌ في مسيرة نضالٍ لم تتوقّف من أجل فلسطين ومقدّساتها، وهو المكمّل لمعركة بطولية لن تتوقّف منذ اشتعلت في مايو/ أيار 2021، حيث ملحمة حي الشيخ جرّاح والزحف المقدّس لفلسطينيي 48 وفلسطينيي الضفة صوب المسجد الأقصى يعلنون التحدّي ويحلفون يمين الأقصى، فيما كلُّ بيتٍ في بلاد العرب يقسم معهم بقلبه ويهتف معهم: فلسطين عربية والكيان الصهيوني عدوٌّ محتلٌّ وإلى زوال.
في تلك اللحظة، أطلّت المقاومة بوجهها البطولي، ووجّهت إنذاراً صارماً إلى العدو بقصف تل أبيب إن لم يرتدع. وكالعادة، ظهر المُرجفون والمتفلسفون يقدحون في دخول فصائل المقاومة على الخط، ويعلنون، بيقين الجاهل الواثق، إن صواريخ غزّة لو دخلت المعركة فإن القضية سوف تخسر، كما سيتضرّر المقدسيون وعرب الـ 48 وسيتّخذها الاحتلال ذريعةً لممارسة الجنون والإجرام بلا سقف.
غير أنه ثبت أن كل رشقة صواريخ منطلقة من غزّة كانت تُعطي المعركة زخماً، وتعيد طرح القضية على وجهها الصحيح: شعبٌ أبيٌّ صاحب حقٍّ أصيل في الأرض يقاوم ويحارب ويناضل دفاعاً عن وجوده وترابه ومقدّساته، ضد أحطّ أنواع الاحتلال وأردأ أشكال الاستعمار.
هم المُرجفون أنفسهم الذين ينهشون المقاومة بألسنتهم وتنسيقهم مع الاحتلال الآن، ويتوّهمون أن شعباً قدّم هذا العدد الهائل من الشهداء يمكن أن يبيع أسود مقاومته لإطعام قطط التنسيق الأمني.