عبدة الزلزال

26 فبراير 2023
+ الخط -

علينا أن نلتمس العذر للجنرال بشار الأسد، وهو يهرع لتفقّد "نصف شعبه"، الذي لم يضربه التهجير، بل الزلزال، فلا ريب أن القلق الذي يساوره حقيقيٌّ غير مزيّف، هذه المرّة، لأسباب لا يعرفها سواه، والضالعون في علم نفس الطغاة والمستبدّين. غير أن ذلك لا يمنعنا من المشاركة بسهمٍ لتحليل هذا المتغيّر الذي يبدو خارج قوانين "طبائع الاستبداد" التي تحدّث عنها عبد الرحمن الكواكبي، فما الذي يدفع مستبدّاً أباد ما لم تفلح سائر الكوارث الطبيعية والاصطناعية في إبادته إلى هذا الاهتمام غير المفهوم بتفقد مخلّفات الزلزال، وزيارة الجرحى، وإبداء الأسى والتضامن مع ذوي الضحايا، غير الاعتبارات الإعلامية وسحر الصورة، والظهور بمظهر الزعيم الحادب على شعبه؟

تبدو الإجابة بعيدةً لو دارت حول رغبة الجنرال في دراسة الفروق بين "كارثتين": الأولى تخلّفها البراميل المتفجّرة والغازات الكيماوية، والأخرى ناجمة عن الزلازل؛ لأن ما يعني الأسد، في نهاية المطاف، هو فعل الموت ذاته، بما يترتّب عنه من تحييد الخطر الذي يتهدّد سلطته، سواء جاءت خاتمته برصاصة أو زلزال، مع التأكيد أن الأسد سيكون سعيداً للغاية إن عرف أن من بين ضحايا الزلزال معارضاً واحداً ما زال مجهولاً أو مشروع معارض حتّى، ولن يأسف على خمسة آلاف ضحية سقطت معه بنيران صديقة جاءت هذه المرّة من الطبيعة التي تحالفت معه، ولن يتوانى عندها أن يصبح من "عبدة الزلازل".

وقبل الإجابة، علينا أن نحدّد من الذي زاره بالضبط بشّار الأسد، في جولته التفقدية؛ لأن هذا التحديد يضاهي نصف الإجابة، فمن زارهم جزءٌ من نصف شعبه الذي لم تهجّره الكوارث الاصطناعية التي سبّبتها آلته العسكرية منذ ما يزيد على ربع قرن. وهذا النصف، حصراً، هو ما أراده الأسد لتحقيق "التجانس" الاجتماعي الذي قال به قبل سنوات. لم يكن يريد آنذاك أن يقول، بصريح العبارة، إن ما يريده تطهير عرقيّ بامتياز، وإن خلاصه من نصف شعبه لا يرتب أيّ تأنيبٍ لضميره، فهذا النصف مشاغب، متمرّد، لا يحقق له إحساسه المريض بالسيادة والتسلّط. والأجدى التخلّص منه، إما بالإبادة أو التهجير، لا فرق، بل المهمّ الخاتمة نفسها كما قلنا ... ولم تكن تُحرّك فيه مشاهد المهاجرين السوريين على الحدود الأوروبية وسط المهانة والصقيع، أو في كوارث انقلاب قوارب التهريب في البحار أيّ شعرة في بدنه.

كان ما يهمّه النصف الباقي، "المتجانس"، وفق حساباته التسلطية، فهو النصف المهمّ لتأكيد إحساسِه بالسيادة، الذي ذكرناه، وحياته ثمينة، ليس بمعناها الإنسانيّ والحقوقيّ، بل بالمعنى البيولوجيّ وحسب، لأن زعامته حاكماً لا تحقق شرطها من غير وجودٍ محكوم، أولاً، ولأن سيادته لا تتأتّى بغير وجود النقيض (العبد)، الذي قبل شرط الخضوع لينجو من الإبادة والتهجير، فاحتفى به الزعيم، واعتبره الرعية المثاليّة المتجانسة... على قاعدة: "والقبح يُظهر حُسنه الضدّ".. هذا على افتراض أن الجنرال يعرف مبلغ قبحه.

أما حين ابتليت الرعيّة بهذا الزلزال، فقد أصيب الجنرال بزلزال رديفٍ زعزع كيانه، إذ بدأ الخطر هذه المرّة يقترب من النصف الذي راهن عليه لديمومته وتأكيد سيادته، "النصف المتجانس"، ما يعني أنه سيخسر السيادة حتماً، إن غاب هذا النصف، ولذا هرع لتفقّد الرعية، وإظهار الحدب والتضامن، والفزع أيضاً إن اقتضى الأمر.. فالخطر جدّي، والسيادة على المحكّ.

لو كانت رحمة الأسد شاملة، وصادقة، ونابعةً من قلب زعيم عادلٍ محبٍّ شعبه، حريصٍ على حياته وأحواله، لكان حريّاً به، قبل الزلزال وغيره، أن يتفقّد النصف الآخر منه، في بلاد الغربة، وأن يفتح له سائر التسهيلات والمغريات لإعادته، حتى ولو حسم ذلك من رصيد "التجانس" الذي كان ينشده، لأن "الاختلاف" هو الأجمل، لو كان يدري عبدة الزلزال.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.