عبث التغميس خارج صحن المونديال

22 نوفمبر 2022
+ الخط -

في خضم البهجة الغامرة، والمتعة البصرية الفاتنة، والانفعالات التي رافقت انطلاق مونديال قطر 2022، سيما حفل الافتتاح المدهش، بمعيار ما سبق من نسخ لهذه المناسبة الكروية المنتظرة كل أربع سنوات، تبدو مهمة الكاتب السياسي الرصين بالغة الصعوبة، إن لم نقل إنها شبه مستحيلة، نظراً إلى انصراف أذهان القراء وعامة الناس، بمن في ذلك متابعوه، إلى دائرة اهتمام أخرى قصية، ومنطقة ترقّب موازية، بعيدة عن قلوب المخاطَبين بالحدث اليومي المحمول على جناح المعارك والمواقف المتلاحقة من حوله، بعيدة عن عيونهم وعواطفهم، فما بالك إذا كان الكاتب نفسه شغوفاً بلعبة الكرة الساحرة؟
هكذا بدت لي مهمة الكتابة في هذه الزاوية الأسبوعية إشكالية، سيما غداة افتتاح المونديال، الذي يجرف معه اهتمامات مئات الملايين من مختلف الأعراق والأعمار والميول، ويستقطب التوقعات والتفضيلات والترجيحات المتباينة لسائر الفئات الثقافية والطبقات الاجتماعية، الأمر الذي وجدتُ نفسي معه أسيراً، وسعيداً بأسره هذا الحدث الرياضي الأكثر إثارة على الإطلاق، ومن ثمّ فقد بدت لي أيضاً أي مقاربة لأي واقعة سياسية. في هذه الأثناء، الباعثة على السرور، بمثابة التغميس خارج الصحن، المليء بما لذّ من المشهيات، وما طاب من أصناف الطعام، ولولا التحفظ التلقائي لقلنا إن الكتابة عن أي أمر آخر أشبه بالسباحة ضد التيار في نهر متدفق الماء في فصل ربيعي دافئ.
والحق أن هذه الإشكالية كنت قد واجهتها سابقاً، في مناسبات الأعياد الدينية زمن الصحافة الورقية، حين كانت تصدُر فيها الجرائد، أيام عطلتي الأضحى والفطر، بأعداد أقل وصفحات محدودة، بلا إعلانات، الأمر الذي كان يحمل الكاتب السياسي المنتظم على انتقاء موضوعه بما تيسّر من مسائل هامشية، وتدبيجها على سبيل المجاملة، إدراكاً منه أن عامة الناس، بمن فيهم قرّاؤه المحتملون، يعزفون، وسط انشغالاتهم الاجتماعية، عن تصفّح اليوميات الصادرة في توقيتٍ لا يلائم أجنداتهم المزدحمة بالزيارات والمعايدات، والاستقبالات من دون استئذان، وهو ما كان يعيه الكاتب الصحافي مسبقاً، وما كان يحبطه أيضاً، وبالتالي، يدعوه إلى أخذ الواجب الكتابي بأقل قدرٍ من الأهمية.
غير أنه في مناسبة لا تتكرّر إلا بعد حين طويل، ولا سابق لها في بلادنا العربية، مثل مناسبة مونديال قطر، أو قل مونديال العرب، لا يمكن للكاتب المعني بجمهوره التعاطي معها كبقية المناسبات الاعتيادية السابقة في مسيرته المهنية، ليس لأنها استثنائية من كل الجوانب فقط، وإنما لأنها الحدث الجميل المرتقب، الفائض بالحبور والاصطهاج والمتعة النادرة في حياة الأمم والشعوب كافة، خصوصا في هذا الزمان الموغل في التصحّر والبؤس والاكتئاب والظلم، الأمر الذي يُقدّم سانحة فريدة من نوعها لمشاركة الناس، كل الناس، ابتهاجاتهم الحقيقية بهذه المنافسات على الفوز باللقب الأسمى في عالم الرياضة والدورات القارّية والوطنية المتتالية على مدار العام، فوق المستطيلات الخضراء، ووسط حماسة المشجّعين، حماسة تضيق عنها الملاعب والمدرّجات.
أضافت حملة التشويه والتشويش والتشكيك التي بدأت عشية انطلاق المونديال، من مصادر إعلامية أوروبية مغرضة ضد استضافة قطر هذا الحدث الكبير، حافزاً إضافياً لمعظم الكتاب العرب، الذين استشعروا في أعماقهم كنه هذا الاستعلاء العرقي الأوروبي، كي يبادروا إلى الانخراط في حملة إعلامية مضادّة، إزاء ما أسماه كاتب هذه السطور، ذات زاوية سابقة، "العنصرية الأوروبية بتجلياتها الكروية"، تلك الحملة التي وصفها رئيس منظمة "فيفا"، جياني إنفانتينو، بأنها عملية نفاق ممجوج، تتطلب من مطلقيها تقديم واجب الاعتذار لشعوب العالم الثالث، عوضاً عن إظهار مشاعر التفوّق الحضاري ضد من استعمرتهم أوروبا عقودا طوالا، ونهبت خيرات بلادهم في وضح النهار.
على هذه الخلفية المختصرة، وبأدنى الحد الأدنى من الحسّ بالمسؤولية الأخلاقية والأدبية، تجاه دولة عربية قبلت التحدّي، استجابت لمتطلباته، واستضافت بكل جدارة فعاليات الحدث الرياضي الأهم في العالم، حيث انطلقت على خير ما يرام، لم يكن هناك مفر من التغريد داخل سرب المصطهجين بمشاهدة مباريات كأس العالم على أرض عربية، والاحتفاء بها وفق ما يليق بكل تلك الجهود التنظيمية المذهلة، لواقعة رياضيةٍ مميزةٍ بكل المعايير، سوف يتم تدوينها في السجل التاريخي لكأس العالم على أن النسخة العربية القطرية، المدهشة حقاً، هي الأكثر جمالاً وإبهاراً، وفي ذلك وحده ما يدعو المستضيفين إلى الفخر، ويبعث في أذهان الضيوف صورة أخرى عن الثقافة العربية، غير تلك المشوّهة عن حضارة هذه المنطقة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي