عبثية التصعيد بين الجزائر والمغرب
يعود التوتر الجزائري المغربي مجدّداً. يمكن قول الكثير حول كونه مسلسلاً مملاً ومتكرراً وعبثياً، لا يعود على أي من طرفيه بالجدوى، لكنه، مع ذلك، يتخذ منحى تصاعدياً منذ أشهر. ويبدو أن كلا من البلدين اختارا استراتيجيتهما للتعامل مع الآخر، أقله في السنوات الأخيرة. تتصدّر الجزائر، في كل مرة، حملة الاتهامات بحق المغرب، بغض النظر عن مدى صحتها. يظهر أن المسؤولين لا يخشون الصدام، الدبلوماسي أقله، عندما تستدعي الحاجة، بل على العكس يرون فيه ضرورة ملحّة. ولا تكاد تنتهي أو تخفت فصول أزمةٍ حتى تظهر أخرى. من الصحراء إلى قطع العلاقات الدبلوماسية في أغسطس/ آب الماضي، ووقف إمدادات الغاز عبر المغرب، وعودة ملف المخدرات، والاتهامات للمغرب بالوقوف خلف الحرائق في الجزائر، ودعم "استقلال منطقة القبائل" الجزائرية، وصولاً، قبل يومين، إلى الاتهام الجديد للرباط بالتورط في قتل ثلاثة مواطنين جزائريين في قصفٍ استهدف شاحنتهم، واستحضار مصطلحات من قبيل "إرهاب الدولة" و"العقاب".
في المقابل، يبدو المغرب أقرب إلى الاكتفاء بسياسة التجاهل حيناً، و"الرد في حدّه الأدنى" حيناً آخر، إذ يصدر التعليق دائماً على لسان مصدر حكومي، وغالباً ما يتبنّى سياسة التقليل من الأزمة، وتأكيد الرغبة في عدم الانجرار إلى حربٍ مع الجارة الشرقية، والحفاظ على استقرار منطقة ملتهبة، وتعيش على وقع تحدّياتٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ عدة. حتى أن سياسة "مدّ اليد"، أقله ظاهرياً، كانت واضحةً في خطاب العرش للعاهل المغربي، محمد السادس، في أغسطس/ آب الماضي، والذي لم يخل من دعوة علنية إلى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، للعمل سوياً لتطوير العلاقات وتغليب منطق الحكمة وإعادة فتح الحدود البرية المغلقة بين البلدين منذ العام 1994.
بالنسبة إلى الرباط، فهي تعمل على قاعدة الأهم ثم الأقل أهمية، وبما يضمن مصالحها فقط. من وجهة نظرها، تراكم ما تعتبرها "انتصارات سياسية استراتيجية"، من دون أن تمانع في دفع ما يتوجب عليها من أثمان لذلك، على غرار نيلها اعترافاً أميركياً بسيادتها على الصحراء مقابل عودة العلاقات العلنية مع إسرائيل، وما تبع ذلك من عدم إظهار أي حماسة في الاعتراض على منح إسرائيل صفة عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، في الوقت الذي كانت تتصدّر فيه الجزائر المعركة لإلغاء العضوية.
يصعب تصوّر أي حل راهن لهذا الصراع بين المغرب والجزائر الممتد منذ عقود، والمثقل بإرث ما تركه الاستعمار من أزمة حدودية، وما أعقب ذلك من قائمة طويلة من القضايا العالقة السياسية والأمنية، من دون وجود رغبة متبادلة في تفكيك هذه الملفات، وإدارة الخلافات بعيداً عن أجواء التصعيد والتهديد. ويجد المسؤولون في الرباط والجزائر أنفسهم متحرّرين من أي ضغوط جرّاء غياب أصوات وازنة، شعبية وسياسية، في كلا البلدين، تدفع باتجاه تغيير جذري في العلاقات. وغالباً ما يكون الاصطفاف خلف موقف السلطات هو السائد، إلا في حالة نادرة وغير مؤثرة، أو يسود الصمت المطبق، بانتظار انتهاء كل عاصفة. حتى التعاون الاقتصادي الذي كان يراهن عليه بعضهم في الرباط والجزائر، ليكون رافعة أو على الأقل ضابط إيقاع للعلاقات، ثبت فشله.
وعلى الرغم من أنه، بحسابات التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، فإن ما بين الجزائر والرباط من قواسم مشتركة أكثر بكثيرٍ من الخلافات، لكن توالي الأزمات وانعدام الثقة بين الطرفين يعزّز القطيعة بين البلدين، ويجعل من جميع الاحتمالات ما دون الحرب المباشرة واردة. ولن يكون مفاجئاً أن تظهر تجليات التوتر الحالي سريعاً في ملف الصحراء، العنوان الأبرز في المرحلة المقبلة، ما يجعل من مهمة المبعوث الأممي الجديد لقضية الصحراء، ستيفان دي ميستورا، أكثر تعقيداً، وفي حكم المجمدّة قبل أن تبدأ.