عام التحوّلات في القرن الأفريقي
تبدو التقلبات التي شهدتها دول القرن الأفريقي، عام 2022، وخصوصاً في الصومال وإثيوبيا، أنها جاءت على عكس التوقعات. ففي وقتٍ حذرت فيه تقارير أمنية غربية من إمكانية انزلاق تلك الدول إلى أتون حربٍ كارثية وأزمات سياسية لا حصر لها، حملت رياح التغيير مفاجآت غير مسبوقة، ولم تمضِ أشهر قليلة مع حلول منتصف مايو/ أيار الماضي حتى حدثت تحولات دراماتيكية في المشهدين الأمني والسياسي في كثير من دول الشرق الأفريقي، لكن الأحداث المفصلية التي شهدتها دول القرن الأفريقي العام الفائت أعادت الأذهان إلى الأعوام التي غيّرت مجريات الأحداث في هذه المنطقة، وتحديداً مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بدءاً بانهيار الدولة المركزية في الصومال عام 1991، مروراً بسقوط نظام منغستو هيلامريم في إثيوبيا عام 1991، وسبق ذلك تحوّل نظام الحكم في السودان بانقلاب قاده ضباط وجنرالات في الجيش بقيادة عمر البشير عام 1989 الذي حكم البلاد زهاء ثلاثة عقود.
كان 1991 عاماً ملبداً بغيوم التحولات المفاجئة، وشاهداً على إطاحة الدكتاتوريات والانقلابات التي صارت ضجيجاً يملأ سماء دول عديدة في أفريقيا، وذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانتهاءً بما عُرف بحقبة "الحرب الباردة". هي أحداث كانت بمنزلة مخاض عسير دفعت دول القرن الأفريقي نحو المجهول، وفي أحضان أحلاف وتكتلات جديدة، فتوترت الأحداث في الصومال من سيّئ إلى أسوأ، بينما في السودان ترسّخت جذور سلطة نظام البشير. أما في إثيوبيا، فتفكّك النظام دفعة واحدة كأحجار الدومينو، ليحكم ميلس زيناوي أديس أبابا قرابة عقدين، مؤسساً نظاماً فيدرالياً يجمع الإثنيات الإثيوبية في قبضة نظام حكمه، بينما اختار أسياس أفورقي شريكه ورفيق دربه في إطاحة نظام منغستو، أن يقتطع جزءاً استراتيجياً وحيوياً من الجغرافيا الإثيوبية. وبإعلان أسمرة الانفصال عن أديس أبابا عام 1993، أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة في صندوق من حديد.
وفي سياق هذه المقاربة التاريخية لحاضر دول القرن الأفريقي، بماضيها الزاخر بتقلبات جيوسياسية وأمنية، حفل عام 2022 بالنسبة إلى تلك الدول أحداثاً خلطت حسابات (وأوراق) المنطقة التي تشهد تدافعاً دولياً، وخصوصاً من الدول الصاعدة (الصين روسيا تركيا) التي تطمح إلى أن تجد موطئ قدم لها في المنطقة، وبدرجاتٍ متفاوتة، وبين القوى التقليدية، وفي مقدمتها واشنطن وباريس، كأقوى دول حضوراً بعلاقاتها الجيوستراتيجية والاقتصادية والعسكرية مع دول القرن الأفريقي. وحمل عام 2022 بالنسبة إلى الصومال، تقلبات مهمة غيّرت موازين القوى في المنطقة، بعد انتهاء العرس الانتخابي بتداول سلمي للسلطة، مسدلاً ستار حقبةٍ أثارت مخاوف كثيرة في مستقبل (ومصير) هذا القطر العربي الذي بقي ردحاً من الزمن في مستنقع الاضطرابات السياسية والأمنية. ومع وصول الرئيس حسن شيخ محمود إلى الحكم وتنصيبه لولاية ثانية، لعلعت أصوات الرصاص ودقّت أجراس الاستقرار والسلم الأهلي في بلدٍ كاد يعود إلى مربع الاحتراب الأهلي، بسبب خلافات عميقة بشأن عملية تنظيم الانتخابات الرئاسية بين الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو ورئيس حكومته محمد حسين روبلي، وهو تطوّر لافت وهام أنعش آمال الصوماليين في تلافي خطر الوقوع في فخ الأزمات والتوترات الداخلية مجدداً.
تبدو أوضاع دول القرن الأفريقي متشابهةً في عنفوان أزماتها الداخلية الأمنية والسياسية والاقتصادية وبين موجات التصادم السياسي في بعض أقطاره
لكنّ الجانب السلبي الذي يفتك بالصومال، كما ينخر السوس العظام، بقاؤه في حلقة مفرغة من الأزمات الإنسانية، بسبب الجفاف والتصحّر الناتجين من أزمة المناخ العالمية، وهي أزمةٌ يدفع تكاليفها الباهظة البسطاء والمعوزون في جنوب الصومال. وتتوالى التحذيرات الأممية شهرياً من خطر حدوث مجاعةٍ أشدّ فتكاً من مجاعة عام 2011، التي راح ضحيتها ربع مليون صومالي، والاستجابة الفاعلية لدرء شبح مجاعةٍ لا تزال ضعيفة، ولا ترقى إلى المستوى المطلوب، ما يجعل الصومال يخوض حروباً غير متكافئة مع معالجة الأزمات البيئية تارة، وإنهاء نفوذ حركة الشباب التي انحسر امتدادها الجغرافي حالياً بعد خسارتها إقليمين كبيرين وسط البلاد، تارة أخرى.
أما في إثيوبيا، فحدث تغيرٌ مفاجئ في إسكات الرصاص في إقليم تيغراي، بقبول قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي دخول مفاوضاتٍ مع حكومة آبي أحمد، برعاية من الاتحاد الأفريقي، وبوساطة قادها الرئيس الكيني السابق، أهورو كنياتا، وجنّب بذلك أديس أبابا كلفة حربٍ طاحنةٍ لا نهاية لها، ووقّعت الأطراف في جنوب أفريقيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي اتفاقية وقف العدائيات في إثيوبيا، ومن بنودها إعادة الخدمات الأساسية (الكهرباء، الاتصالات، الحوالات، الخطوط الإثيوبية) إلى إقليم تيغراي بعد نحو عامين من صراع دموي، وهي الاتفاقية التي مثلت مفاجأة لمتابعين كثيرين في سرعة استجابتها وتنفيذ بنودها لكلا الطرفين، لإنهاء النزاع، وكأن كلٌّ منهما أخذ نصيبه من فاتورة الحرب الباهظة. لكن الخيبات والشرخ اللذين تركتهما الحرب على إقليم تيغراي لا تزال في حاجة إلى معالجة جذرية وتسوية أوضاع كثيرين من سكان الأقاليم الإثيوبية، خصوصاً التي شملتها رحى الحرب، وامتدت ألسنة النار فيها، فتهجير ملايين من سكان تيغراي وقصفهم جهاراً نهاراً لا يمكن معالجة تداعياتها النفسية والمادية بتوقيع اتفاقيات يوقعها السياسيون، ويبقى جرحها مفتوحاً من دون ضمانات حقيقية لعدم العودة إلى الاقتتال، وإجراء إصلاحات جذرية لما أفسدته معاول الهدم والخراب في إقليمي تيغراي وأمهرا.
يبدو الوضع في السودان أن تراجيديا البكاء على أطلال نظام حكم عمر البشير والترحم على زمن الدكتاتورية سيد الموقف
حدث أيضاً تحول سياسي مفاجئ للسلطة في كينيا، من دون أن يحتكم الكينيون هذه المرّة إلى السواطير والفؤوس والرصاص، كما جرت العادة عند كل انتخابات، ويملأ الشغب والفوضى العارمة شوارع نيروبي، كما حدث في انتخابات عام 2016. وأجريت العام الماضي انتخاباتٌ رئاسيةٌ على وقع جو هادئ، في أغسطس/ آب الماضي، اختار الكينيون بموجبها وليام روتو رئيساً جديداً، انسلخ من عباءة السلالة الحاكمة، بعد أن ظلّ نحو عشر سنوات نائباً للرئيس أهورو كنياتا، معتبراً نفسه مرشّح الفقراء، وروَّج روتو، في أثناء خطابه للجماهير وفي فترة الحملة الانتخابية، أنه "مرشّح الكادحين"، ما أكسبه شعبية جارفة، قادته إلى الفوز بانتخابات شابها قلق كثير قبل إعلان نتائج الانتخابات رسمياً.
يبدو الوضع في السودان أن تراجيديا البكاء على أطلال نظام حكم عمر البشير والترحم على زمن الدكتاتورية سيد الموقف، فلم تُنجز الاتفاقيات الموقعة بين الأطراف السودانية تقدماً كبيراً في الانتقال السلس للسلطة، وآخرها ما عُرف باتفاق "الإطار" بين بعض المكونات المدنية والعسكريين في البلاد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وعلى الرغم من أنها أثارت جدلاً محتدماً بين المكونين، المدني والعسكري، إلا أنها رشّت قدراً من التفاؤل على مائدة الحوار نحو إمكانية العودة إلى المسار السياسي لتحقيق انتقال ديمقراطي، يبدو جلياً أنه غير ممكن راهناً ببقاء السلطة بيد العسكر منذ الثورة المدنية التي أطاحت نظام البشير عام 2019.
في المحصلة، تبدو أوضاع دول القرن الأفريقي متشابهةً في عنفوان أزماتها الداخلية الأمنية والسياسية والاقتصادية وبين موجات التصادم السياسي في بعض أقطاره، وأخرى تتهيأ لحاضرٍ جديد عنوانه التحوّل نحو الحوكمة الرشيدة مثل مقديشو التي تحاول النهوض من قاع أزماتها الممتد نحو عقدين، بعد إعلانها حرباً على حركة الشباب، ورفعها سيفاً على رقاب الفاسدين في مؤسّساتها. لكن جوائح الفقر والجوع تؤخّر عجلة التنمية لمعظم دول المنطقة، نتيجة الأزمات البيئية وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية في إمدادات القمح عالمياً ودول المنطقة، مؤججة ارتفاع أسعار السلع المعيشية، وأزمات مركّبة تهدّد حياة نحو 22 مليون شخص في دول القرن الأفريقي، فضلاً عن معضلة البطالة في أوساط دول المشرق الأفريقي، التي تولّد أزمات اجتماعية متفاقمة، فهي المغذّية الرئيسة للهجرة غير الشرعية، ودافعة قوية لانضمام شبابٍ عديدين إلى مجاهيل الجريمة المنظمة والمتمرّدين، بحثاً عن مصدر رزقٍ بحملهم السلاح، وخوضهم تكاليف صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.