طُلّاب 1968 وطُلّاب 2024
قبل أربع سنوات من عام 1968، عندما كان الجنرال شارل ديغول رئيساً لفرنسا، سأل مندوب مجلة فرنسيّة الكاتب جان بول سارتر عن تفسيره انصراف الشبيبة عن السياسة. قال الصحافي: "إنّ فرنسا تفقد اهتمامها بالسياسة، وهذا اللاتسييس يتجلى في انصراف الشبيبة الفرنسية ليس عن الأيديولوجيات فحسب، بل حتى عن الأفكار، فما يستحوذ على اهتمام الشبيبة هو التقنيّة بوصفها سبيلاً للرفاه".
لم يمضِ وقتٌ طويل على طرح هذا السؤال على سارتر، حين حلّ عام 1968، الذي شهدت فيه فرنسا انبثاق الحركة الطلابية التي غيّرت أشياء كثيرة في فرنسا وفي أوروبا، لا بل في العالم كله، سواء في السياسة أو في الفكر أو في الثقافة، أي إنّ الشبيبة التي قال مندوب المجلة الذي حاور سارتر بأنها تنصرف عن السياسة هي ذاتها التي ملأت الشوارع في باريس وبقيّة المدن الفرنسية رافعة الشعار الشهير: "كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل"، في ما يشبه "الثورة" على ما شَرع في الظهور من نموذجِ حياةٍ يقومُ على الفرجة والاستهلاك.
بدأت تلك الحركة في فرنسا، واجتاحت، فيما بعد، البلدان الأوروبية الأخرى، ثم شملت آثارها البلدان النامية، بما فيها البلدان العربية، وعلينا ملاحظة أنّ هذا العام، عربياً، كان الذي تلا هزيمة 5 حزيران التي شكّلت صدمة في الوعي العربي، وردّة الفعل يومها لم تكن التسليم بالهزيمة، بل التمرّد على العوامل التي قادت إليها، لذا فإنّ أفكار الانتفاضة الطلابية الفرنسية صادفت هوىً في نفوس الجيل الجديد من الشبّان العرب، ولا سيما طلبة الجامعات. من مفاعيل ذلك انبثاق الحركة الطلابية المصرية في مطالع السبعينيات التي قامت تحت عنوان رئيسي هو الدعوة إلى الحرب، للثأر من الهزيمة ولتحرير الأراضي المحتلة.
نحن الآن في عام 2024. ها نحن أمام احتجاجات طلابية حاشدة وعاصفة، تُذكّرنا بالتي جرت في 1968، بدأت من الجامعات الأميركية وأخذت تأثيراتها تمتدّ إلى بلدان أوروبية، وربما غير أوروبية. ومثلما لاحظ مندوب المجلة الفرنسية التي حاورت سارتر أنّ الشبيبة في فرنسا وفي العالم منصرفة، لحظتها، عن السياسة، كان بوسع أيّ منّا أن يقول، وقبل أشهر قليلة فقط من اليوم، الملاحظة نفسها عن حال الشبيبة في أميركا وغيرها، خصوصاً لجهة عدم الاكتراث بمحنة الشعب الفلسطيني المحروم أبسط (وأهمّ) الحقوق التي يتمتع بها أي شعب، في أن تكون له دولته الوطنية المستقلة ذات السيادة. وكما فاجأت أحداث 1968 كثيرين، بسبب النقلة التي جرت من حال لامبالاة الشياب وانصرافهم عن السياسة، ها هي احتجاجات طلبة أميركا وغيرها تأتي بمثابة مفاجأة صاعقة لدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب وكل المتورّطين في العدوان على غزّة ودعمه.
يشارك طلّاب وبعض أساتذة أكثر من مائتي جامعة أميركية في هذه الاحتجاجات، ومنها جامعات شهيرة، مثل هارفارد، نيويورك، ييل، كولومبيا، ماساتشوستس، إيموري، ميشيغان، براون، همبولت بوليتكنيك، بيركلي، جنوب كاليفورنيا، تكساس، مينيسوتا، وغيرها. وأصبح المحتجون المناهضون للدعم العسكري الأميركي لإسرائيل أكثر صخباً في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بعد أن اتسع حجم المخيم المؤيد للفلسطينيين داخل الحرم الجامعي. وعلى مدار أكثر من أسبوعين، اتسعت رقعة الحركة الاحتجاجية الطلابية التي أشعلها اعتقال أكثر من مائة شخص في جامعة كولومبيا، لتشمل، أيضاً، جامعات أتلانتا وبوسطن.
آخر ما توقعته إسرائيل، ومعها صنّاع القرار في واشنطن، أن تأتي الاحتجاجات بهذا الزخم الكبير من داخل الولايات المتحدة تحديداً، في ضغط كبير على إدارة بايدن عشيّة الانتخابات الرئاسية الوشيكة. ثمّة "اطمئنانٌ" إسرائيلي مستقر من أن الدعم الأميركي لسياساتها لا يأتي، فقط، من الإدارات المتعاقبة، جمهورية كانت أو ديمقراطية، بل من قطاعات واسعة داخل الرأي العام الأميركي، حيث نجحت الدعاية الصهيونية في إظهار إسرائيل، واليهود عامة، في صورة "الضحية"، وتصوير المقاومين لاحتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية "إرهابيين" و"متطرّفين"، بالاستخدام الفظّ ليافطة، أو شمّاعة، "معاداة السامية"، لتفيق تلك الدوائر من نشوتها أمام التحرّكات الطلابية ضد أنفاق أصول الجامعات الكبرى في شركات تصنيع الأسلحة التي تدعم العدوان على غزّة، وللمطالبة بمنع الإبادة الجماعية هناك، لتصيب منظومة الدعاية الصهيونية ومُروجيها في مقتل، رغم كل مساعي تشتيت الرأي العام وإنهاء الحراك الطلابي بالقوّة.