"طوفان الأقصى"... ماذا قبل وماذا بعد؟

25 أكتوبر 2023

طفلة فلسطينية نزحت من غزة إلى خان يونس جنوب القطاع (23/10/2023/فرانس برس)

+ الخط -

واحدةٌ من مرويات شعبية يفخر بها أهل غزّة حكاية تفيدنا بأن الشرطة الإسرائيلية كانت كلما اعتقلت أحدا من أبناء غزّة تتهمه بأنه يحلم بما لا يجوز له الحُلم به، وتطلُب منه أن يعلن براءته من الحلم كي تطلق سراحه، لكن الغزّاوي المعتقل كان يصرّ على الالتصاق بحلمه، حتى لو أبقوه سجينا. وفي كل يوم كان سجانه يراقبه من خلال نافذة زنزانته، فيكتشف أنه ما زال ملتصقا بحلمه ولا يريد أن ينفكّ عنه، يسارع السجان لإبلاغ رؤسائه بذلك، يردّ مدير السجن على بلاغ السجّان بأن يواصل مراقبة سجينه حتى يتخلّى عن حلمه أو يموت!

لم يتخلّ الغزّاوي عن حلمه، فمذ وقعت غزّة في شرك الاحتلال الصهيوني، وحتى في الفترة التي خضعت فيها لحكم السلطة الوطنية الفلسطينية وهو يخوض معركته في التصدّي للقوة الإسرائيلية الغاشمة وفي مقارعتها على طريق تحقيق الحلم، ومن "معركة الفرقان" عام 2008 في الردّ على عملية "الرصاص المصبوب" التي استمرّت 23 يوما التي كان الإسرائيليون يريدون من خلالها كسر شوكة المقاومة، ومرورا بمعركة "حجارة السجّيل" عام 2012 التي جاءت ردّا على عملية "عمود السحاب" الإسرائيلية واستمرّت أياما ثمانية، ثم معركة "العصف المأكول" عام 2014 ردّا على عملية "الجرف الصامد"، وإلى معركة "الفجر الصادق" عام 2014، ومعركة "صيحة الفجر" عام 2019، التي ردّت فيها المقاومة على اغتيال القيادي بهاء أبو العطا، وصولا إلى معركة "سيف القدس" التي فجّرتها حركة المقاومة عام 2021 في مواجهة عملية "حارس الجدران" الإسرائيلية، ثم معركة "وحدة الساحات" عام 2022 في مواجهة عملية "الفجر الصادق" التي قالت إسرائيل إنها تريد منها إنهاء حركة المقاومة.

في كل هذه السنين المديدة، لم تنته المقاومة، ظلّت صامدة، صابرة، ومحتسبة، والغزّاوي الفلسطيني ظلّ ملتصقا بحلمه، لا يريد أن ينفكّ عنه، لم يتعب، ولم يسكُت، ولم يهادِن، بقي مصرّا على انتزاع حقّه، ومرت فترة هدوء ظن معها بعضهم أن الأمر قد انتهى، كتب مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان "إن المنطقة أصبحت اليوم أكثر هدوءا عمّا كانت عليه قبل عشرين عاما". تختبئ وراء هذه الإشارة دعوة ضمنية إلى مسؤولين عرب بأن يمضوا في مسيرة التطبيع مع الإسرائيليين من دون خوف، على قاعدة أن ليس في الإمكان أكثر فعلا مما كان، لكن ما لم يدركه سوليفان إلا بعد فوات الأوان أن ما ظهر على السطح في حينه هو من طينة الهدوء الذي عادة ما يسبق العاصفة، وهكذا تفجّر "الطوفان" فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، على نحو لم يتوقّعه أحد، إلى درجة أن رجال الاستخبارات الإسرائيليين كانوا مذهولين مما حدث، وقد صعقتهم المفاجأة، وشرعوا يتبادلون الاتهامات في تحديد المسؤولين عن التقصير. وتعرّض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي كان يعِد الإسرائيليين بتوفير الأمن لهم، وقمع حركات المقاومة الفلسطينية، إلى موجة سخطٍ بسبب عجز حكومته عن توقّع ما حدث، وطالبوا بإقالته. والأهم من هذا كله أن فصيلا فلسطينيا واحدا استطاع أن يكسر أسطورة "جيش إسرائيل التي لا تُقهر"، الأمر الذي لم يرعب الإسرائيليين فحسب، إنما أرعب معهم الأميركيين والغربيين الذين اندفعوا لدعم الكيان الإسرائيلي على نحوٍ غير مسبوق، كما أرعب عربا كانوا يبحثون عن جائزةٍ كبرى من التطبيع مع العدو.

سمّوها مغامرة، سمّوها مخاطرة، سمّوها ما شئتم، لكن المهمّ بالنسبة للفلسطيني أنه يريد أرضه التي اغتصبها عدوّه

هنا يصبح "السابع من أكتوبر" معلما فارقا مؤشّرا إلى بدء زمن جديد، "شرق أوسط" جديد يختلف تماما عما أراده الإسرائيليون والأميركيون وسواهم من الغربيين، دعاة الحضارة الزائفة التي تنتهك كل معايير الحقوق الإنسانية، وتدفعهم إلى الوقوف مع الجلاد ضد الضحايا، وإلا ما معنى أن يرفض زعماء الغرب إدانة إسرائيل في هجومها الوحشي المتعمّد ضد أهل غزّة وكل الفلسطينيين؟ ما معنى أن يصرّوا على رفض مطلب وقف حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة؟ وما معنى أن يختم الرئيس الأميركي جو بايدن زيارته "التاريخية" إلى تل أبيب بمقولته الغبيّة الموغلة في العنصرية، أن "إسرائيل لو لم تكن موجودة لكان علينا إيجادها"؟ لكأنه بذلك يستعيد مقولة أحد أسلافه هاري ترومان "لو كنت في أرض فلسطين لكنت التحقتُ بمنظمة الهاغانا أو الأرغون دفاعا عن الحركة الصهيونية"!

وهنا أيضا قد يلوم بعضهم المقاوم الغزّاوي الفلسطيني، لأنه ارتكب فعلته الاقتحامية من دون حساب للتداعيات التي يمكن أن تنجم عنها. هذا ليس موضع حساب الآن، سمّوها مغامرة، سمّوها مخاطرة، سمّوها ما شئتم، لكن المهمّ بالنسبة للفلسطيني أنه يريد أرضه التي اغتصبها عدوّه، هو مثل بطل همنغواي، قد يحطّم، وقد يدمّر، لكنه لن ينهزم أبدا.

هذا هو الدرس الذي يعلّمنا إياه "السابع من أكتوبر"، والباقي مجرّد حواش.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"