طفل الخيام
في اليوم الأول من العام الجديد، حطّ بي الترحال، أنا وعائلتي الصغيرة، في منطقة غرب مدينة رفح، وهي تشرف على شاطئ البحر، وتكثر فيها خيام اللاجئين، على أساس أنها مصنّفة من المناطق الآمنة. وهكذا صرتُ في أحد بيوتها المندسّة بين الخيام، وحيث يصعُب على سكّان المنطقة التعرّف إلى معالمها، بسبب تكاثر الخيام التي احتلت الأرصفة، وبدأت الزّحف على الشوارع الرئيسية.
في حدود ساعات ضحى اليوم الأول من العام، وفيما كنتُ أطلّ من الشرفة المنخفضة على استحياء، وشعور الألم يعتري قلبي، فالعالم خارج غزّة يستقبل العام ببهجة واحتفال، ونحن هنا لم نشعر بمراسم ولا طقوس، سوى تغيّر التاريخ إلكترونيا على هواتفنا، وفيما كنتُ لا أدقّق النظر صوب الخيام، وتُخفي دموعي وضوح الرؤية، تناهى إلى سمعي صوتُ طفلٍ صغير يبكي. وهنا كان عليّ أن أحفز حواسّي، وخصوصا سمعي، لكي أحدّد مصدر الصوت.
كان مصدر الصوت يأتي من الباب السفلي العريض، الخاصّ بموقف سيّارة صاحب البيت، والذي حوّله إلى مكانٍ يأوى أناسا نازحين. ولذلك، توجّهتُ سريعا لكي أفتحه من دون ضجّة، فيما يغطّ البائسون في نومٍ متعبٍ فوق أرضيةٍ صلبةٍ وخشنة، وبلا فراش بالمعنى الدقيق. وحين أطلّ برأسي إلى الشارع، لمتُ نفسي ألف مرّة أنني من الذين يستيقظون باكرا، ويكتشفون العالم ويتأملون السماء، ويصيغون أفكارا وقصصا عن العالم الهادئ قبل أن يغزوه الضجيج، فهذه العادة وضعتني أمام طفلٍ في حدود الرابعة من عمره، يرتعد من البرد ويبكي. وكان أيضا بملابس مبلّلة بماء المطر وحافي القدمين، والاكتشاف الذي صدمني ونخز قلبي أنه كان أبكم، ولكن ذلك كله لم يمنع أن أدفعه بسرعة نحو الداخل، وأسحبه جريا نحو الطابق الثاني، حيث أقيم مع عائلتي.
توقّف في الداخل فورا عن البكاء، وكأنك قد ضغطت زرّا لإيقاف سيل العويل والدموع والمخاط، وبدأ يفتح عينيه ويتأمل المكان حوله، ويتحسّس كل شيء بيديه الصغيرتين المرتعدتين، ثم ينظر نحو وجهي المشفق، وكأنه يسألني: هذه جدرانٌ أليس كذلك؟ ثم توجّه نحو باب الحمّام فدفعه بغريزة إفراغ المثانة الصغيرة، وتهلّل وجهُه، ولم يجد غضاضة في أن يفرغ مثانته واقفا أمام عينيّ، ثم اندفع نحو صنبور الماء وغسل يديه، وداعب خيط الماء الرفيع المنسلّ من الصنبور، فنحن جميعا في مدينة رفح نعاني من شحّ المياه، ولكنه كان يبدو سعيدا، لأن الماء ينزل من صنبور، وقد علمت لاحقا أن عائلته تحصل على الماء من الدلاء وبعد عناء.
حمدتُ الله كثيرا، وأنا أجفّف ثياب الطفل فوق موقد الفحم، أن الحال لم يستقرّ بي في خيمة منذ بداية الحرب، ففي كل مكانٍ يسخّر الله لي بيتا يأويني مع أولادي. وهكذا كنت أدفع كفّي الطفل فوق موقد الفحم، والذي أشعله باكرا، لكي أشعر بالدفء، وأعد فوقه إبريق قهوتي الصباحية، فتهلّل وجهه، وحاولت هنا أن أجعله يتكلّم، ولكني اكتشفت أنه لم يكن خجولا، ولكنه أبكم.
مسحتُ على شعره، ومنحته شطيرة من الخبز المحمّص فوق النار، والمحشو بجبن أبيض رديء، فالتهمها، ووضعتُه في حجري، وفكّرت كيف سأصل إلى أهل هذا الطفل، وأنا قد سكنتُ هذه المنطقة منذ يومين، وتوصّلت إلى أنني حين يبزغ النهار سوف أسلّمه لصاحب البيت، لأنه سيجد طريقة للعثور على أهله.
بلغة إشارة طفولية، فهمتُ أن الطفل يعيش مع أهله في خيمة، وأنه قد خرج وراء أمّه التي ذهبت لتعدّ الخبز في مكان بعيد مخصصٍ لأفران الطابون. وهكذا بدا أمامي تصوّر لما حدث مع الطفل الأبكم، فقد أراد اللحاق بأمه التي تريد اللحاق بدورها بطابور فرن طابونٍ يُقام في ساحة بعيدة عن خيمتهم، فتاه الطفل، ولم تدرك الأم أن طفلها قد لحق بها، فكل تفكيرها كان موجّها نحو الطابور الطويل الذي تريد اللحاق به، وهي تعرفُ أن طابور الماء ينتظرها أيضا. ... احتضنتُ الطفل وغفا على ركبتي، فوضعتُ جسده الصغير فوق حشيّتي الرقيقة، ودثّرته بالبطّانية الوحيدة التي أملكها، والتي أحولها إلى معطف فوق كتفي حين أقف في الشرفة كعادتي.
حين انبلج النهار، وقبل أن أُبلغ صاحب البيت بعثوري على الطفل، كان مكبّر الصوت في المسجد القريب يعلن عن فقدان طفل بمواصفات الطفل النائم فوق حشيتي، وأن على من يعثر عليه تسليمه لذويه في المسجد، وهكذا كنت أحمله بين ذراعي، وأتوجّه به إلى المسجد، وأضعه بين ذراعي أم تجمّعت كل إمارات اللهفة والذعر على وجهها الذي غطّته الدموع، وكانت تشير إلى مجموعة من الخيام القريبة والمحيطة بالمسجد والبيوت الممتدّة إلى الأرصفة، والصادم لي وأنا أحاول تهدئتها أنني اكتشفتُ أنها أيضا كانت بكماء.