طبيعة النظام السياسي في المغارب: سلطة الديمقراطية التحكّمية
ربما لم يعد من الأهمية السياسية، والإيديولوجية معها، أن نسائل حكّامنا في بلاد المغرب العربي اليوم عن طبيعة النظام السياسي الذي يمارسون به حكمهم في الناس، لاعتبارٍ مهم، هو من خَاصَّةِ الإرث التاريخي، الحديث منه بخاصة، الذي مكّنهم من ذلك، وأعني بذلك أنهم ورثوه عن الأجيال السابقة التي استوت على سدّته كتركة استعمارية (موريتانيا) أو أقامته كاختيار سياسي وإيديولوجي متداول اعتماداً على المفهوم الذي بلورته للدولة الوطنية الوليدة (الجزائر)، أو كان ذا طبيعة تاريخية موروثة كما هو الحال في المغرب. والحقيقة أيضاً أن الانقلابات العسكرية نفسها لم تعد مهتمةً كثيراً بطبيعة النظام الذي تنقلب عليه، بل تراها تعتمد على طبيعة السلطة التي جاءت بها في علاقة بتلك التي مورست من قبل، والأساس فيها هو التناقض (الفساد والانحلال)، أي التصوّرات والمصالح والاستفادة الممكنة، لا النَّقْض (الإبطال والإلغاء) الذي في معناه ومبناه التحوّل عن الشيء إلى شيء بديل (من الملكي إلى الجمهوري مثلاً أو العكس).
ويمكن التشديد على أن قيام مختلف الأنظمة السياسية الموجودة في الدول المغاربية، باستثناء المغربي، لم يكن من فعل ثورة شعبية مفترضة تولدت عن السيطرة الاستعمارية، وكانت سبباً في نقضها، ولا على أساس النظرية السياسية التي تطرح فكرة النظام للاستفتاء الديموقراطي في سبيل اعتماده في الحكم، بل، وهذا ما أودّ تأكيده، من دوافع الانقلابات العسكرية التي كرّست الانفراد بالسلطة، وجعلت من النظام الأداة الفعالة للتحكّم في الدولة وفي المجتمع على السواء.
ولهذا السبب، فيما يبدو لكاتب هذه المقالة، برزت أنظمة سياسية هجينة، أساسها رئاسي أو ملكي موروث (المغرب حالة واستثناء بعد إسقاط السنوسيين في ليبيا عام 1969)، ولكنها لا تتقيّد على أي نحو بمحدّدات النظام الرئاسي ولا بالمقوّمات الضامنة لاستمرار الآخر الملكي. فكانت القوة العسكرية المتمكّنة هي الأداة الفعالة لبناء سلطة النظام في مختلف البلدان المغاربية باختلاف المراحل والدواعي والسياق السياسي المصاحب، بالإضافة إلى الاعتبارات الإيديولوجية التي كانت، في مرحلة الستينيات، من محدّدات التوجّه والتحالف والاختيار.
تفسير ذلك، من الناحية النظرية العامة، أن النظام الرئاسي هو من أشكال الحكم، غايته الأساسية تنظيم السلطة السياسية من أجل حكم بلدٍ ما، وهو يتميّز بصورة أساسية بمبدأ تقسيم السلطات بين التنفيذية والتشريعية والقضائية ورئاسة الدولة. أما النظام الملكي، وهو شكل آخر من أشكال الحكم، فإن نظامه السياسي لا يبنى إلا على حكم شخصٍ واحدٍ يملك السلطة المطلقة، ولا يصل هذا الشخص إلى هذا المستوى إلا من طريق الوراثة، وفيه تتشخّص الاستمرارية والاستقرار.
من الواضح، بالنظر إلى أوضاع الأنظمة السائدة في الدول المغاربية، أن النظام الرئاسي الذي ساد في تونس، وفي ليبيا بعد الانقلاب في 1969، وفي موريتانيا والجزائر بعد استقلال الأولى في 1960 والثانية في 1962، استند، في مطلق الأحوال، مع الاعتبار بالمرحلة القلقة التي أعقبت الاستقلالات وطبيعة التسويات التي أملاها المستعمر الذي أصبح قديماً، إلى ما يمكن تسميته "نظام الأمر الواقع". أعني بذلك أن نسبة مهمّة من الأسس السياسية المعتمدة في بناء النظام كانت من أجل ضمان الاستمرارية (التقليدية) التي تحكّم فيها الأجنبي، من حيث البناء والاستمرارية والفعالية أيضاً، ولم تعمل السلطة النابعة من قوة الجيش، التي فازت بالسيادة، إلا على استكمال النِّسَب الأخرى، حتى تتعادل الطبيعة الفعلية للنظام مع القدرة على التحكّم الفعلي في الأوضاع وفرض الاختيارات المُنْزَلَة بالقوة في استقلال عن الإرادة الشعبية النابعة من مفهومي السيادة والديمقراطية.
معظم النظم الرئاسية تحت مسمّى الجمهورية تحوّلت مع مرور الوقت إلى "مِلكية شخصية وراثية"، دونما أدنى اعتبار للديمقراطية التمثيلية التي تؤثث النظام الجمهوري نظرياً وزمنياً وسياسياً
أما النظام الملكي في المغرب، فرغم أنه موروثٌ وله تاريخه الفعلي المتواصل، بصرف النظر عن بعض قطائعه وارتباكاته ومجاله الجغرافي أيضاً، (فترات السيبة وقيام الجمهورية الريفية فترة في أوائل العشرينيات من القرن الماضي)، فقد تأكّد اختياراً، بعد أن حافظت له الحماية الفرنسية على المقومات التقليدية للبقاء وللاستمرار، برضى مختلف الفرقاء الذين شاركوا في محادثات إيكس ليبان (1955) التي تُوِّجَت بالاستقلال في غيبة السلطان المنفي وقتذاك. وهكذا أصبح النظام الملكي قوة مركزية سيسعى لتأكيد شرعيته التاريخية والسياسية، وخصوصاً في بعض مراحل التطوّر التي أعقبت الاستقلال وأيقظت، في الوقت نفسه بعض النزعات الانفصالية، إلى جانب النضالية المعارضة منها، ثم العسكرية، هدّدت وجوده، وحاولت القضاء على استمراريته، في محاولة لاستبداله بنظام آخر للحكم كانت له جاذبية سياسية وإيديولوجية في فترة النهوض القومي العروبي منذ إسقاط الملكية في مصر (1952) وأختها الهاشمية في العراق (1958)، إلخ.
والقصد من ذكر هذه التصورات الوصول إلى ثلاث خلاصات أوجز محتواها: أولاها أن طبيعة النظام لم تعد، في المقام الأول، المحدّد الرئيس للتوجه السياسي الذي يستقر عليه نظام الحكم، كذلك إن المنطق الإيديولوجي الذي كان يتحكّم في الاختيار ويجعل منه أفضلية يفاخر بها، فيما هو ينافح عن الأهمية المفترضة لطرائقه في تداول السلطة وسياسة الشعب، لم يعد معياراً تبريرياً يزكّي طبيعة السلطة الجمهورية، خصوصاً بعد أن أصبحت هذه، في تصور النُّخب المحلية، أسلوباً فعلياً لممارسة السيطرة وتحقيق الاغتناء والإجبار التحكّمي، ثم جعلت منه، اعتماداً على ثقافتها السياسية، مصدر شرعيةٍ لا غنى عنها لاستمرار ذلك كله بطريقة أمثل أُطلقت عليها ألفاظ متفاوتة الدلالة بعد لفظ الجمهورية: الديمقراطية الشعبية كما في الجزائر، والإسلامية كما في موريتانيا، والعربية (الجماهيرية) كما في عهد القذافي، والتونسية، إلخ. وإذا ما استثنينا موريتانيا التي عرفت في ثلاثة عقود فقط ما مجموعه سبعة انقلابات عسكرية، فإن الرئيس الحبيب بورقيبة تربّع على العرش التونسي أزيد من ثلاثين سنة، وهواري بومدين أزيد من ثلاث عشرة سنة لم تقعده إلا الغيبوبة، والعقيد معمّر القذافي أزيد من أربعين سنة سحق بعدها سحقاً بشعاً، وهكذا... ولا أشير إلى المغرب للاعتبارات المرتبطة بالملكية الموروثة، مع أنها تعرّضت لانقلابيْن فاشليْن (1971، 1972).
قيام الدولة الوطنية في مختلف البلدان المغاربية، بعد الاستقلال، استند إلى القوة العسكرية
ثانيها، أن معظم النظم الرئاسية تحت مسمّى الجمهورية تحولت مع مرور الوقت إلى "مِلكية شخصية وراثية"، دونما أدنى اعتبار للديمقراطية التمثيلية التي تؤثث النظام الجمهوري نظرياً وزمنياً وسياسياً بطبيعة الحال، وأساساً في تعارض أيضاً مع المقوّمات الجوهرية التي برّرت (وقعّدت) أساس النظام الجمهوري من المنظور "اليعقوبي" (الديمقراطية المركزية و"الثورية")، كما ورثته عن الاستعمار الفرنسي الذي بنى هيكله وَصَنَّف أسلوبه. مع ما يصاحب هذا وذاك، في مطلق الأحوال، من تبريرات دينية أو خصوصيات محلية، وفي أحيان كثيرة بمستوى التطور الاجتماعي ودرجة الوعي، الذي لا يمكن أن يكون إلا متدنّياً في منطق التبرير، الذي يتمتّع به السكان على اختلاف معاشهم ومستواهم الطبقي. مع الاعتبار أن ذلك لا يكون إلا لتزكية انفرادهم بالسلطة وإدامة زمنها السياسي التحكّمي، وتقلد الزعامة الوهمية القائمة على التسلط والجبروت.
أما الثالثة والأخيرة، فتعني أن طبيعة السلطات القائمة، بصرف النظر عن هوية النظام، تتجسّد في تحكّميتها وتكشف عن عدوانيتها بدافع الحفاظ على الاستقرار وضمان الأمن وإبطال دوافع نشوب الحرب الأهلية في مقابل السلم الاجتماعي... وهي الشعارات التي ازدهرت في مختلف البلدان التي دُعيت من قبل بالعالمثالثية. والحال هنا أن قيام الدولة الوطنية في مختلف البلدان المغاربية، بعد الاستقلال، استند إلى القوة العسكرية: سواء منها التي ورثتها عن الحماية والاستعمار، أو التي لجأت إلى تكوينها وتنظيمها لضمان استمرارية النظام الجديد وبناء التحالفات والاستبداد بالسلطة في وجه الخصوم والمعارضين والأصدقاء كذلك، فبناء الدولة تم في "تساوقٍ" مع بناء أجهزتها الإيديولوجية والسياسية والمخابراتية وسواها... وهي المؤسّسات الرسمية المُحَصَّنة التي رسّخت أسلوب التآمر بدلاً من الديمقراطية، وانتهجت نمط الاستغلال بدلاً من التنمية، ورسّخت الظلم في مقابل الحرية والعدل.