طبيب وسط حقل ألغام... بزشكيان والمجتمع الغاضب
أمام كاميرات البثّ المباشر، نهض في الاستوديو فجأةً من كرسيّه إلى يمين مسعود بزشكيان، وصرَخ في وجه الخبير، الذي يستضيفه التلفزيون الإيراني لمناقشة خطط المُرشّحين للرئاسة الإيرانية وبرامجهم في المجالات الثقافية والاجتماعية، ورمى الميكروفون إلى الأرض، وغادر الأستوديو، وسط تعليق من المذيع على هذا التصرّف؛ "آسف".
موقفٌ أثار النقاش في خضمّ الحملات الدعائية للمُرشّحين. انقسمت الآراء بين داعمةٍ أستاذ علم الاجتماع السياسي، محمد فاضلي، وأخرى تنتقده. لا تقبل الأعراف الإيرانية هذا الحجم من الغضب. لطالما عُرف نُخَب إيران وساستها بصبْرهم وجَلَدهم، فهذا يجعلهم أشبه بحائكي السجّاد الذين يجلسون ساعات طويلة أشهراً حتّى إنهاء سجّادة تكون بعد ذلك لوحةً نفيسةً لا تُضاهى. ولذاك، توصَف سياساتُهم بسياسات الفُستُق، إذ طالما اعتادوا وضعَ الفُستُقٍ على طاولات المباحثات، وبينما يأكلُه ضيوفُهم بسرعة تراهم يقلّبون الفُستُقَ حبّةً حبّةً، مختارين ما يروق لهم، مانحين أنفسَهم الوقتَ للتفكير.
ليس هذا هو المشهد الوحيد الذي ستحتفظ به الذاكرة الإيرانية من الانتخابات الرئاسية المُبكّرة (2024)، بل هناك مشاهد عديدة أخرى: إلغاء تجمّع انتخابي لمسعود بزشكيان في طهران، قبل دقائق من التئامه في ملعب حيدر نيا وسط طهران، وهروع أنصاره إلى الشوارع المُحاذية لتشجيعه؛ ترديد شعارات حفظها الشباب منذ الأيام التي تلت وفاة الشابة مهسا أميني في عنف الشرطة في سبتمبر/ أيلول 2022. لكن المرّة هذه من دون أيّ تبعات ولا اعتقالات. أطلق بعضهم العنان لأصواتهم، بينما كان آخر تجمّع انتخابي لبزشكيان يَنفَضُّ وسط آمالٍ بفوزه في الجولة الثانية من الانتخابات. فاز بزشكيان بالرئاسة وسط معادلات مُعقّدة، وأوّل ما قاله: "سأكون صوتَ من لا صوت لهم".
يدرك بزشكيان أنّه وإن حصل على 16 مليون صوتٍ، إلّا أنّهم يُشكّلون نحو ربع أصوات الناخبين فقط، ويدرك أيضاً أنّ 60% من الإيرانيين قاطعوا الانتخابات في الجولة الأولى، وقاطعها 50% منهم في الجولة الثانية، رغم الجهود كلّها، من النظام والحكومة ووسائل الإعلام الرسمية والحزبية، لدفع الناس إلى المشاركة. ورغم الاستقطاب الكبير، خاصّة في الجولة الثانية بين التيارَيْن، الإصلاحي، الذي مثّله بزشكيان باعتدال، والمحافظ، الذي مثّله سعيد جليلي بيمينية.
لماذا هذا الغضب، ولماذا هذه المقاطعة، وما الذي ينتظر بزشكيان في داخل إيران قبل أن ينتظره خارجها؟... في كتابه "إيران على حدّ السكّين"، يصف محمد فاضلي، المذكور سابقاً، هؤلاء بـ"اليائسين غير الهادئين"، ويكتب أنّهم كذلك نتيجة تراكم المُشكلات من دون حلول أمامهم "في ظلّ احتفاظ الذاكرة الجمعية الايرانية بأزمات عديدة، ما جعل المجتمع "في مواجهة الخطر"، بسبب عدم نجاعة الحلول، وتتالي الأحداث، والخيارات والسياسات الخاطئة، وسير الأمور بعيداً من سيطرة النظام الاجتماعي والسياسي في قضايا استراتيجية، كالتغير المناخي وغيره، وهو ما يتجلّى في الاعتراض على الأوضاع المعيشية والاقتصادية في الدرجة الأولى، وهو أيضاً ما تكشفه الأرقام، سواء في السياسة أو علمي النفس والاجتماع.
يدرك بزشكيان أنّه وإن حصل على 16 مليون صوتٍ إلّا أنّهم يُشكّلون نحو ربع أصوات الناخبين فقط
منذ عام 2019 سَجّلت أربعة انتخابات في إيران، اثنتان رئاسيّتان وأخرييان تشريعيّتان، نسبةَ مشاركةٍ أقلّ من 50% (برلمانية 2019: 42%، ورئاسيّة 2021: 49%، وبرلمانية 2023: 41%، ورئاسية 2024: 40% في المرحلة الأولى و49.8% في المرحلة الثانية). ومن ناحية اجتماعية، تفيد الاحصاءات بأنّ عام 2023 كان الأكثر عُنفاً في إيران طوال سبع سنوات سبقته. وتفيد دراسة لمركز إيسبا بأنّ 33% من الإيرانيين سريعو الغضب، وأكثر من 23% قد يكونون سريعي الغضب، بحسب الدراسة نفسها التي جاء فيها، أيضاً، أنّ الغضب يُقابَل بغضب، بحسب أكثر 50% من الإيرانيين، من دون أن يصل إلى مرحلة العنف.. غضب يصفه خبراء علم النفس والاجتماع بأنّه جمر تحت الرماد، ويقولون إنّ تبعات اشتعاله تطاول المجتمع والحكومة والنظام.
يقول رئيس جمعية علماء الاجتماع في إيران، سعيد مُؤيّد فر: "هناك نوعان من العنف في إيران، أحدهما المنزلي، وهذا تكشفه الأرقام، رغم أنّنا نعتقد أنّ المنزل في إيران مكان آمن، ويقال إنّ لدينا حياةً أسريةً فعّالة، والمؤسّسة الاجتماعية الوحيدة المتبقية لنا هي هذه المؤسّسة. والثاني هو العنف الرسمي، وفي هذا النوع من العنف، يحاول النظام السياسي بطرق مختلفة فرض قِيَمه وأعرافه الخاصّة. وفي هذه الحالة، لمستوى الكراهية الذي يشعر به المجتمع تجاه هذه الأشكال من العنف تأثير على الوضع المستقبلي لمجتمعنا".
في أوضاع كهذه، يتسلّم مسعود بزشكيان زمام الأمور، لتضاف إليها وعودٌ قطعها في حملته الانتخابية أحيت آمال بعضهم، ودفعت كثيرين إلى الترقّب. ارتفعت البورصة 4%، وتحسّن الريال الإيراني أمام الدولار 4% أيضاً. أعلن بزشكيان بوضوح رفضه العنف ضدّ النساء، وقال في حملاته الدعائية: "لدى بناتنا وأبنائنا مشكلات معنا. يجب أن نسمح للمجتمع بأن يُكوّن مَطالِب. أنا إنسان لدي الحقّ في اختيار ما ألبس، وليس لدينا الحقّ أن نُجبِر الآخرين على أن يلبسوا كما نُريد. والتعاطي مع قضية الحجاب يجب ألّا يكون بالعنف والضغط. يا للأسف! بدل أن تكون الحكومة ثقافية جَعلْنا الثقافة حكومية". وشدّد بزشكيان طوال دعايته على ضرورة اختيار المسؤولين من الكفاءات المُختصّة الخبيرة بعيداً من الانتماءات الحزبية والسياسية والمحسوبيات: "يجب إعطاء الأعمال للخبراء ليتّخذوا القرارات بناءً على المعطيات. أوجدنا ذهنية الهجرة لأنّنا لم نوفّر القوانين المناسبة ولم نشعرهم بحاجتنا إليهم في التنفيذ. لن أسمح لمن لا يراعي التراتبية الوظيفية تسلّم مسؤولية".
يشيد بعضهم بتحضيرات بزشكيان لتشكيل حكومته ويصفونها بالعملية، لكنّهم يعربون عن قلقهم حيال المستقبل
وعود عديدة أطلقها بزشكيان للتعامل مع الحجاب، ولمنح "السنّة" مناصبَ في الدولة، ولتعزيز حصّة القوميات الإيرانية المختلفة في إدارة البلاد بناءً على الكفاءة، وتخفيف القيود على الإنترنت، وتعزيز دور المرأة، وعدم السماح بالتدخّل في الجامعات وطرد الأساتذة والطلبة، و… إلخ. يضاف هذا كلّه إلى ملفّات خارجية عديدة متشابكة، من الملف النووي الإيراني إلى العلاقات مع دول الجوار، مروراً بتحقيق التوازن شرقاً وغرباً، والتعامل مع محور المقاومة.
اليوم رئيساً وليس نائباً في البرلمان، يتعاطى بزشكيان مع هذه الملفّات كلّها، وبعد اجتماع مع المُرشد علي خامنئي استمرّ خمس ساعات بعد إعلان فوزه، يجلس في مكتب الرئاسة إلى جانب منافسي الأمس، وشخصيات ومسؤولين انتقد فِكَرَهم، ورفض نهجهم في التعامل مع كثير من القضايا. كما يلتقي الحلفاء والداعمين، يستمع أكثر ممّا يتكلّم. عن قرب ينصت إلى خُلاصاتٍ عن أوضاع البلاد. بهدوء يكسر المحظور، فيضطر التلفزيون الرسمي لنشر خبر لقائه بالرئيس الأسبق محمد خاتمي، المحظور في الإعلام الرسمي. يرتّب طرائق التعامل مع الملفّات قبل فتحها. يُشكّل بحسب الأخبار المُتناقَلة لجنة سياسات برئاسة محمد رضا عارف، المعاون الأول للرئيس الأسبق محمد خاتمي، تضمّ مجموعات عمل في إطار ترتيبات تشكيل الحكومة، التي ستُعلن بعد أدائه القسم في أغسطس/ آب المُقبل (2024)، وعيّن عارف، عبّاس عراقتشي، منسّقاً له مع الحكومة الحالية لاستكمال ترتيباته. المجموعة السياسية برئاسة وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، والمجموعة الاجتماعية برئاسة وزير العمل الأسبق علي ربيعي، والمجموعة الاقتصادية برئاسة وزير الاقتصاد الأسبق علي طيب نيا، والمجموعة الثقافية برئاسة وزير الثقافة الأسبق رضا صالحي أميري، ومجموعة البنى التحتية برئاسة وزير الطرق الأسبق علي عبد العلي زاده.
تحضيرات بزشكيان لتشكيل حكومته يصفها بعضهم بالعمل في غرفة زجاجية، مُشيدين بالطريقة، وواصفين إياها بالعلمية، لكنّهم، في الوقت ذاته، يعربون عن قلقهم حيال المستقبل. يقول الناشط الإصلاحي أحمد زيد آبادي: "لقد أرسلنا بزشكيان بالتصويت له إلى حقل ألغام لا يملك خريطته".
يدرك الجميع في إيران نظاماً وشعباً ما يواجه البلاد. يتّفق الساسة على الأزمات ويختلفون ربّما في الحلول. قبل ثلاث سنوات، قال المُرشّح للرئاسة الإيرانية آنذاك، ورئيس البرلمان اليوم، محمد باقر قاليباف : "لا مجال أمامنا إلّا أن ننجح"، نجاح يكمن في حلول منتظرة اليوم، وليس غداً. فهل سينجح مسعود بزشكيان جرّاح القلب في إعمال مبضعه في أزمات إيران كلّها؟