طارق البشري .. مؤسسة ذات نفع عام

كتب الصحافي الراحل صلاح عيسى، في 1998، مقالة عن المستشار طارق البشري، وصفه فيها بالمؤسسة ذات النفع العام. وبقراءتك المقالة، على الرغم من الاختلاف الفكري الكبير بين الرجلين، تجد أن الاحترام والتقدير والإجلال للبشري هي الطابع الرئيسي لها، إلى جانب قراءة رصينة لبعض مؤلفات البشري، رحمه الله. الرجل ممن أثّروا في كاتب هذه السطور، وغيروا الكثير من معرفته بشأن عملية إعادة قراءة التاريخ. إلى جانب التأثير على المستوى الشخصي بخلقه من خلال علاقتي به. ولذا كان مقال صلاح عيسى أفضل توصيف وجدته للبشري بأنه مؤسسة ذات منفعة عامة، حتى بعد رحيله قبل أيام. كان عدة قيم تجسدت في رجل واحد، ففي ساحة المؤرخين هو مؤرّخ من طراز فريد. وفي ساحة المفكرين والمنظرين هو صاحب تجربة فكرية وتاريخية ملهمة لا يخطئها صاحب العقل. وفي ساحة القضاء، هو القاضي الذي لا يخشى إلا الله ويصدح بالحق، حتى ولو وقف ضده عبيد الحاكم وزبانيته، وله في جدّه شيخ الأزهر سليم البشري خير قدوة في ذلك. معروفٌ ‎أن له حكما قضائيا بأن رئيس الدولة لا يمكنه إحالة جرائم معينة إلى القضاء العسكري. وكان له دور في السماح بتأسيس حزب ناصري في عهد حسني مبارك بتفسير واسع لمادة في إعلان دستوري كانت تقضي بحظر الأحزاب التي تعترض على معاهدة الصلح مع إسرائيل.

حاول البشري أن يقدّم معالجة للأمة للنهوض والخروج من أزمتها، وقد تجسّد هذا في مشروع فكري واضح المعالم، من ملامحه التحدّث عن الوافد والموروث

حينما تقرأ كتب طارق البشري المتعدّدة، ترى فيها الدقة في الطرح والرصد، واستخدامه مراجع وأرشيفات نادرة، ورصده من خلالها حركة التاريخ بطريقة تجعلك تتأكّد أنك أمام عالم أمين في ما يكتب وينقل، وأمام مفكر قادر على رصد أزمات الأمة أو المجتمع عبر قرن، وقادر على تقديم قراءة عرضية جامعة لذلك، متجسّدة في القول بوجوب تيار أساسي للأمة، راكم كل تلك الخبرات الزمانية والسياسية والفكرية وغيرها. وفي هذا الإطار، حاول أن يقدّم معالجة للأمة للنهوض والخروج من أزمتها، وقد تجسّد هذا في مشروع فكري واضح المعالم، من ملامحه التحدّث عن الوافد والموروث، والوافد هو كل ما يبعد المصريين المسلمين عن جذورهم ويبعدهم على المدى الطويل، وقد ارتبط عنده بالاستعمار، أو القوى الغربية. وعلى المصري الأصيل أن يزرع ميراثه، وأن يعيش مورثه ثقافيًا، كما هو داخليًا، ويقضي على الوافد بنجاح أو يقوم بتطويعه. وأعرب طارق البشري عن أسفه لأنه هو نفسه لم يتمكّن من رؤية "النهج" المدمر (الوافد) للقانون العلماني غير المتوافق مع الشريعة، باعتباره التهديد الرئيسي "للتراث" المصري (الموروث) في وقت متأخر جدًا، كما يرى هو ذلك. وهذا ناتج عن تجربته الفكرية وتحوّله من اليسار إلى اليمين، وتبنّيه مفاهيم إسلامية في مواجهة التيار التغريبي كما كان يرى ذلك.

ولعل هذا ما دفع به أن يستخدم مفهوم النهضة، وهو مفهوم ذو مركزية أوروبية، لكنه استعار اللفظ وقصد به الإشارة إلى النهضة الإسلامية، على طريقة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. وكان يرى أن الحديث في أمور مثل الحجاب وغيره ليست هي الدافع وراء تخلف الأمة، وأنها لو تركت هذا الجدل فلن تكون غدا قائدة للعالم. ‎وهنا، يطرح البشري رؤيته لتجاوز أزمة الوافد، والمتعلقة بالتحديد في تخصّصه الذي احتكّ به مباشرة، وهو العلاقة بين الشريعة والقانون، فهو يرى أن يقوم الفقهاء ورجال القانون بدورهم في هذا المجال، وهو مجالٌ يختلف عن مجال الاجتهاد في الفقه الإسلامي، لأن أدواته مختلفة. ويرى أن رجال التخصّص يفهم بعضهم بعضا، وأن الصراع الحالي المعلن حول تطبيق الشريعة من عدمها هو بين سياسيين بالأساس؛ ينطلقون من منطلقاتٍ أخرى تختلف عن منطلقات أهل التخصص من رجال القانون. ويشير إلى أن النقاش القانوني العلمي بين أهل القانون ليس فيه هذا الصراع، ويدلل على ذلك بأن الذين أصَّلوا لفكرة مصدرية الشريعة في القانون تعلّموا أصلا في فرنسا، مثل عبد الرزاق السنهوري وصوفي أبو طالب وغيرهما، وليس لهم صلة بالحركات الإسلامية.

في كتابه "سعد زغلول مفاوضا"، تظهر شخصية طارق البشري القانوني الذي يحلل شخصية سعد زغلول التي تأثرت بدراسته القانون

وفي كتابه "سعد زغلول مفاوضا"، تظهر شخصية طارق البشري القانوني الذي يحلل شخصية سعد زغلول التي تأثرت بدراسته القانون. وقد برع البشري في ذلك، وكان من أفضل من حللوا شخصية زغلول في هذا المضمار، وكأنه أقرب إلى القول إن أهل مكّة أدرى بشعابها، وأهل القانون أدرى بأهلهم من أصحاب المهنة الواحدة. يستهل البشري الكتاب بتوضيح نمو الحركة الوطنية المصرية وقيام ثورة 1919، فبالرغم من فشل الثورة العرابية عام 1882 واحتلال مصر، لم يسيطر المحتل على الجهاز الإداري والحكومي لمصر بمعنى الكلمة (على عكس ما روّجه مستشرقون أو مؤرخون غربيون)، فكان هناك بالفعل مستشار في كل وزارة، لكن السيطرة كانت مصرية. وهذا ما جعل ثورة 1919 شعبية، لم يستطع الاحتلال السيطرة عليها، والرضوخ للمفاوضات، بسبب صعوبة تشكيل وزارة تميل لهم، وان كان في البداية باستخفاف وارسال مبعوثٍ "لبيان أسباب الإضرابات". ثم اتضح في ما بعد أن الحركة الوطنية المصرية أعظم مما يتصور المبعوث الذي لم يظفر بشيء في رحلته، نظراً إلى امتناع المصريين عنه، ومن يخالف ذلك يصبح خائناً للقضية. من هنا بدأت مفاوضات الوفد ونضاله ضد المحتل للحصول على الاستقلال التام.

يترك رحيل البشري فراغاً كبيراً ينتظر من يملأه، ولكن شخصاً واحداً لن يكون قادراً على ملء مكان أصبح فارغاً برحيل مؤسسة

يوضح طارق البشري الانقسام الذي حصل في الوفد نفسه وأصبح وفدين، وإن كان يظهر أنه واحد، الأول بقيادة سعد زغلول الوطني المتشدد، والثاني بقيادة عبد العزيز فهمي الوطني المعتدل. يرى سعد زغلول أن مسألة الاستقلال لا تتجزأ، وأن الاستقلال غير التام معناه فشل المفاوضات، بينما يرى آخرون أنه لا بد من تقديم تنازلات للحصول على بعض المزايا. يرى البشري أن زغلول كان يعتمد في مفاوضاته المتشددة على الحركة الجماهيرية الشعبية المصرية المشتعلة، ومدى قوتها التي تقف وراءه، فهو يجد أن الحركة الشعبية هي المسيطرة على المشهد، وعلى الاحتلال أن يُدرك ذلك، وإلا اندلعت ثورات أخرى، فرفض زغلول المفاوضات الأولى لبنود ملنر التي امتدت من يونيو/ حزيران 1920 حتى فبراير/ شباط1921 لأنه لا يعترف باستقلال مصر استقلالا تاما. في هذا الكتاب، تجد تأصيلا شديد الأهمية لنشأة الحركة الوطنية المصرية، وما نشأ عنها.

أما كتاب "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، فإن طارق البشري يستكمل فيه ما بدأه في كتابه عن سعد زغلول، ليكشف مساوئ الاستعمار لمصر، فقد عبّر، رحمه الله، مرارا عن أن قوى الاستبداد والاستعمار كانت دائما وراء إثارة النزاعات الطائفية والنعرات العنصرية، لأنها المستفيد الأول والأوحد من الخلاف والخصام بين المسلمين والأقباط، لأن هذا أحد أهم السبل التي تضمن للمستبد أو المستعمر بقاء واستمرار بسط نفوذه وسطوته وسيطرته على مقاليد المجتمع المصري. وفي هذا الكتاب التاريخي الرصين، تحدّث البشري، رحمه الله، عن مؤسسات الدولة والمؤسسات الحزبية، وخصوصا الأزهر والكنيسة وعلاقة المسلمين بالأقباط، من خلال العمل السياسي ومظاهر التضامن والثقافة بينها والسياسة البريطانية في التفرقة الطائفية مع الأحداث التاريخية المبرهنة لرأيه.

.. يترك رحيل طارق البشري فراغا كبيرا ينتظر من يملأه، ولكن شخصا واحدا لن يكون قادرا على ملء مكان أصبح فارغا برحيل مؤسسة.