04 نوفمبر 2024
ضوء على هيكل
بعد ثلاثة أسابيع من توقيع اتفاق "أوسلو" في 1993، استضيف محمد حسنين هيكل في الجامعة الأميركية في القاهرة، لإلقاء محاضرةٍ عنه. قال فيها إن سبعة أسباب لديه تجعله يؤيد الاتفاق، وسبعة أخرى تجعله يعارضه. وتوفرت المحاضرة على حذاقةٍ ونباهةٍ وفيرتيْن (صدرت لاحقاً في كتيّبٍ عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت). ومغزى الإشارة إليها في مستهل إيجازٍ، هنا، عن الكاتب الكبير الذي لن يغيّبه رحيله، أمس، عن مشاغل الصحافة العربية، أنه، في قضايا كبرى، لم يكن جذرياً، لكنه، في الوقت نفسه، ظل يتوفر على عتاد ثقيل من المعرفة بالتاريخ، ودراية بخرائط العالم، وقدرةٍ مكينة في الإفادة من الإيحاءات في اللغة، وتجربةٍ عريضةٍ في صداقاتٍ بلا عدد. وقد توسّل هذه الملكات لديه، وكثير غيرها، في بسط أفكاره، وتقديمها لقرائه ومستمعيه، بجاذبيةٍ خاصة، نظنها التي ساهمت كثيراً في شيوع الشغف الواسع بقراءته، وفي حرص ملايين العرب على الاستماع إليه، في إطلالاته التلفزيونية، وإنْ في الوسع أن يُقال إن تناقصاً استجد، أخيراً، في أعداد معجبيه وقرائه ومستمعيه.
تجربة في الكتابة، وفي الاحتكاك بقضايا مصر والعرب والعالم، تزيد عن سبعين عاماً، فيها الوفير ممّا هو مضيء وبديع في الرجل، وفيها الوفير ممّا يُؤاخذ عليه، من تناقضاتٍ وانحيازات، لكن المحصّلة العامة أن حسنين هيكل لم يكن صحافياً عادياً، وهو الذي حرص على وصف نفسه بأنه "جورنالجي". ولم يكن مؤرخاً عادياً، وإنْ من الأنسب أن يوصف بأنه كاتبٌ في التاريخ. وللحق، ثمّة متعة ضافية في قراءة هيكل، والاستماع إليه، وهو يطوف في تجارب غير قليلة في التاريخ، صناعة الدساتير وبناء مؤسسات الدول الحديثة في أوروبا وأميركا، الحروب الكونية، إيران الشاه وثورة الخميني، حرب 1948 في فلسطين، وغير ذلك كثير. أما حرب السويس في 1956، فلا مؤرخ، غير هيكل كاتب التاريخ، أتقن إضاءةً موثّقةً على تلك اللحظة المفصلية في المشرق العربي.
أما هيكل كاتب مقال، ففي الوسع الزعم أن مهارة كتابة المقال الطويل بلا تطويل، والمسترسل بلا إسهاب، والمنساب بلا إطناب، والمليء بلا ثرثرة، والسهل بلا خفّة، والعميق بلا تعقيد، والنابه بلا تشاطر، إنها مهارة لم تتكرّر، ولم تطأ الصحافةَ العربية قدم أخرى غير قدم هيكل في هذا المطرح. والحديث هنا، عن زمن "بصراحة"، لا عن غيره. ذلك أنه كان مقالاً يُؤالف بين الراهن والتاريخ، ويوظّف الحواشي والإحالات، ويسترشد بالشخصي لإضاءة العام. ولذلك، حقّ لجعفر نميري أن يشكو لأنور السادات، فور تولّي الأخير الرئاسة في مصر، هيكل، لأنه لم يكتب في "الأهرام" عنه شيئاً.
وفي المسألتين، ثمّة موهبة هيكل وقدراته الخاصة، وثمّة ثقافته وهوسه بالمعرفة، من أسبابٍ صنعت له مكانته الاستثنائية في الصحافة العربية، وليست صلته بجمال عبد الناصر وحدها، وإذا كان الصحافي الشهير قد أفاد من تلك الصلة الخاصة، فإن إفادة الزعيم المصري منه مؤكدة أيضاً. وإذا كان هيكل يُرمى بأنه محبٌّ للأضواء، ويهوى أن يكون محظياً من أصحاب السلطة، فالشواهد عصيّة على العد على أن كثيرين من أصحاب هذه السلطة كانوا حريصين على التواصل المنتظم معه، وعلى زيارته في منزله.
لا يذهب هذا الاستعراض الموجز لمقاطع في سيرة هيكل، كاتباً وصحافياً، إلى مؤاخذاتٍ في هذه السيرة، والمقام هنا رحلة الرجل أمس إلى دار البقاء، غير أن تأشيراً يجوز إلى أن الراحل، بقدر معرفته بالديمقراطيات في غير بلد، وبقدر ما شاهد من حرياتٍ سياسية شاسعة في بلادٍ حاور زعاماتها، إلا أن حساسيته تجاه العسف وانتقاص الحريات في مصر وغيرها كانت ضعيفة. كان مسكوناً بالجغرافيات والخرائط أكثر من الانتباه إلى الشعوب (العربية) وحرياتها. كانت أدوار الدول وأوزانها، ومصر تحديداً، شواغل مركزية في مجهوده الغزير، أما ناس هذه الدول، برئاسة فلان أو علان، فلا يأخذون الموقع المستحق، أما شعب فلسطين، فقصة أخرى عند هيكل، وإنْ ثمّة أسباب سبعة لتأييد "أوسلو" وسبعة أخرى لمعارضته.
تجربة في الكتابة، وفي الاحتكاك بقضايا مصر والعرب والعالم، تزيد عن سبعين عاماً، فيها الوفير ممّا هو مضيء وبديع في الرجل، وفيها الوفير ممّا يُؤاخذ عليه، من تناقضاتٍ وانحيازات، لكن المحصّلة العامة أن حسنين هيكل لم يكن صحافياً عادياً، وهو الذي حرص على وصف نفسه بأنه "جورنالجي". ولم يكن مؤرخاً عادياً، وإنْ من الأنسب أن يوصف بأنه كاتبٌ في التاريخ. وللحق، ثمّة متعة ضافية في قراءة هيكل، والاستماع إليه، وهو يطوف في تجارب غير قليلة في التاريخ، صناعة الدساتير وبناء مؤسسات الدول الحديثة في أوروبا وأميركا، الحروب الكونية، إيران الشاه وثورة الخميني، حرب 1948 في فلسطين، وغير ذلك كثير. أما حرب السويس في 1956، فلا مؤرخ، غير هيكل كاتب التاريخ، أتقن إضاءةً موثّقةً على تلك اللحظة المفصلية في المشرق العربي.
أما هيكل كاتب مقال، ففي الوسع الزعم أن مهارة كتابة المقال الطويل بلا تطويل، والمسترسل بلا إسهاب، والمنساب بلا إطناب، والمليء بلا ثرثرة، والسهل بلا خفّة، والعميق بلا تعقيد، والنابه بلا تشاطر، إنها مهارة لم تتكرّر، ولم تطأ الصحافةَ العربية قدم أخرى غير قدم هيكل في هذا المطرح. والحديث هنا، عن زمن "بصراحة"، لا عن غيره. ذلك أنه كان مقالاً يُؤالف بين الراهن والتاريخ، ويوظّف الحواشي والإحالات، ويسترشد بالشخصي لإضاءة العام. ولذلك، حقّ لجعفر نميري أن يشكو لأنور السادات، فور تولّي الأخير الرئاسة في مصر، هيكل، لأنه لم يكتب في "الأهرام" عنه شيئاً.
وفي المسألتين، ثمّة موهبة هيكل وقدراته الخاصة، وثمّة ثقافته وهوسه بالمعرفة، من أسبابٍ صنعت له مكانته الاستثنائية في الصحافة العربية، وليست صلته بجمال عبد الناصر وحدها، وإذا كان الصحافي الشهير قد أفاد من تلك الصلة الخاصة، فإن إفادة الزعيم المصري منه مؤكدة أيضاً. وإذا كان هيكل يُرمى بأنه محبٌّ للأضواء، ويهوى أن يكون محظياً من أصحاب السلطة، فالشواهد عصيّة على العد على أن كثيرين من أصحاب هذه السلطة كانوا حريصين على التواصل المنتظم معه، وعلى زيارته في منزله.
لا يذهب هذا الاستعراض الموجز لمقاطع في سيرة هيكل، كاتباً وصحافياً، إلى مؤاخذاتٍ في هذه السيرة، والمقام هنا رحلة الرجل أمس إلى دار البقاء، غير أن تأشيراً يجوز إلى أن الراحل، بقدر معرفته بالديمقراطيات في غير بلد، وبقدر ما شاهد من حرياتٍ سياسية شاسعة في بلادٍ حاور زعاماتها، إلا أن حساسيته تجاه العسف وانتقاص الحريات في مصر وغيرها كانت ضعيفة. كان مسكوناً بالجغرافيات والخرائط أكثر من الانتباه إلى الشعوب (العربية) وحرياتها. كانت أدوار الدول وأوزانها، ومصر تحديداً، شواغل مركزية في مجهوده الغزير، أما ناس هذه الدول، برئاسة فلان أو علان، فلا يأخذون الموقع المستحق، أما شعب فلسطين، فقصة أخرى عند هيكل، وإنْ ثمّة أسباب سبعة لتأييد "أوسلو" وسبعة أخرى لمعارضته.