ضوء على موت الوسائط البروليتارية في المغرب
يطرح المغاربة، بغير قليل من الجدّية المشوبة بالاستغراب، سؤالاً حقيقياً في حدَّته: هل تجاوزت الدولةُ الإطاراتِ الاجتماعيةَ، من نقابات وهيئات مهنية، وحتى تنظيمات سياسية، في القيام بالدور الاجتماعي المخوّل لهذه الأخيرة؟ حقيقةً، لا يمكن اعتبار هذا السؤال الذي يعود مع فاتح مايو/ أيار لهذه السنة مجرّد تمرين بلاغي تفترضه هيمنة الدولة، منذ عقد (على الأقل) على الأجندة الاجتماعية. بل هو سؤالٌ يوجد أيضاً، بالنظر إلى الضعف الهيكلي الذي أصبحت تعيشه الحياة النقابية، في عمق تحوّلاتٍ عميقة، عرفتها فضاءات التعبير المجتمعي. ويشير المغاربة، من كلّ مجالات التفكير، إلى خصائص اجتماعية وتنظيمية فارقة، في زمن الانفتاح المؤسّسي والسياسي، في تدبير الموجات الاجتماعية الكبرى، وفي تدبير الانتماء اليومي الذي كان ميزة مغرب سنوات الصراع بين الدولة والمجتمع.
أولاً: تسجّل المؤشّرات الرقمية التي تمسّ الالتزام النقابي تراجعاً فظيعاً، من حيث العزوف عن الانضمام إلى الهيئات المهنية، والترفّع عن مخرجات اتفاقياتها مع الحكومة نفسها! وفي هذا، من المثير أنّ استطلاعاً حديثاً عن الاتفاق الاجتماعي الموقّع بين الحكومة والاتحاد العام لمقاولات المغرب (الباطرونا) والمركزيات النقابية؛ شكل أنّ أغلب المشاركين فيه يرون "الاتفاق لا يتضمّن أي مكاسب لهم، مادية أو غير مادية". وتبين نتائج الاستطلاع الذي أعدّه المركز المغربي للمواطنة أنّ 91 % من المستجوبين يرون أنّ مخرجات الاتفاق الاجتماعي لا تتضمّن أيّ مكاسب مادية لهم، في وقتٍ تعرب النقابات عن ارتياح مشوبٍ بالحذر. ومن حيث الانتماء بدون مكاسب، كشف تحقيق المندوبية السامية للتخطيط، وهي هيئة رسمية، أن معظم المغاربة النشيطين غير منخرطين في أي نقابة أو منظمة مهنية، بما يمثل 95.3%، وهو رقم فريد يتزايد، بالرغم من ارتفاع الاحتقان الاجتماعي ومظاهره المقلقة.
تُجمع الكتابات والتحليلات على سعي جذري، لدى العهد الجديد الذي بدأ مع محمد السادس، لِأنّ تغير الدولة مهامها نحو ترسيخ بعدها الاجتماعي
والخلاصة: وجود هوّة بين تقديرات التنظيمات النقابية وقواعدها المفترضة. عدم الثقة في التصريحات النقابية والحكومية على حد سواء. وهو ما يشكل عن أزمة عميقة لم تحصل من قبل في زمن المكاسب البسيطة والقليلة، حتى. عدم المراهنة على التنظيمات النقابية في رفع الطالب إلى الجهات المعنية بها. ولا بأس من الملاحظة هنا إن الدولة، في خطابات الملك محمد السادس، صارت ترفع مطالب الفئات المتضرّرة بنفسها إلى نفسها، وتبحث عن الحلول التي تعطيها طابعها الشكلي رسميا عبر الحوارات والاتفاقات الاجتماعية. وموازاة مع ذلك، تُجمع الكتابات والتحليلات على سعي جذري، لدى العهد الجديد الذي بدأ مع محمد السادس، لِأنّ تغير الدولة مهامها نحو ترسيخ بعدها الاجتماعي والقيام بوظيفة "العناية" الاجتماعية، مقابل انفلات التعبيرات الاجتماعية من قبضة التنظيمات النقابية والسياسية.
ومن دون الدخول في التفاصيل، تسجّل الدراسات الاجتماعية المتعدّدة، المحلية والدولية منها، أنّ الدولة سارعت إلى التجاوب مع المعالجة الملحّة لمظاهر الهشاشة والفقر والبطالة، والانعدام شبه الكلي للحماية الاجتماعية بتراكم إيجابي، بدأ منذ 2005 مع انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية الاجتماعية، والتي سعت إلى معالجة مظاهر الهشاشة الاجتماعية والضغط، وهي تعيش اليوم مرحلتها الثالثة في الفترة 2019 ـ 2023. بل إن العرش المغربي لم يُخْفِ أنّه جعل منها تجربة العهد الجديد وصلب تحوّله الاجتماعي. وهو ما وضع الأسس لمعالجة أعمق، طالما عبّر عنها الجالس على العرش بأسئلة استنكارية، كما وقع في خطاب العرش 2019 عندما كانت الذكرى الـ20 لعيد العرش مناسبة ليتساءل عن عدم انعكاس كل ما تحقق اقتصادياً، وفي مجال إنتاج الثروة الوطنية على عموم الفئات الهشّة، كما وجّه سؤالاً كبيراً: أين الثروة، ولماذا لا يستفيد منها المغاربة؟ وكان واضحاً أنّ البعد الاجتماعي كان هاجساً لديه، باعتبار أنّ كل المتتبعين سجّلوا سعي العهد الجديد (منذ بداية الألفية الثالثة) إلى طي صفحات التوتر السياسي والاختناق الحقوقي والذاكرة المؤلمة لانتهاكات الماضي، إضافة إلى إشكالات الاستعصاء اللغوي وقضايا المرأة، من أجل التفرّغ للقضايا ذات البعد التنموي والاجتماعي، باعتباره أجندة الدولة والمجتمع لما بعد تصفية الفضاء السياسي والحقوقي. وتضاعفت هذه المجهودات بقوة، مع توالي مظاهر التوتر الاجتماعي الذي واجهته الدولة (احتجاجات الريف واجرادة وورزازات، والتي دام بعضها عدة شهور، وانتهت بما شكّل جرحاً جديداً في الدولة والمجتمع معاً).
الهاجس الأكبر للمناضلين، كما للفاعلين الاجتماعيين، هو كيفية تجديد نشاط القوى النقابية حتى تصبح معنية أكثر بتطور المقاربة الاجتماعية لفعلها المدني
مقابل ذلك، ظهر للعيان أنّ البِنيات المجتمعية المخوّل لها التأطير السلمي لهذه الاحتجاجات، والتعبير عنها (ودفع الثمن إذا اقتضى الأمر) تراجع دورها، وتم الاتفاق على ضعف الوسائط الاجتماعية من نقابات وأحزاب، وتراءى للجميع شبح الفراغ التنظيمي في التعبير عن حاجيات المجتمع. وفي هذا السياق، سجّلت الحوليات السياسة المعاصرة، منذ 2016 على الاقل، ضعفا في وسائط التعبير المجتمعي، مضافاً إلى العاهات التي تراكمت، طوال سنوات الاستقلال، وهي في الأساس بلقنة الحقل النقابي، تراجع جاذبية الثقافة الكفاحية لفائدة تعابير التموقع المؤسّساتي، تفكّك منظومة القيم الجامعة للتفكير الطبقي، وسيادة منطق الفئوية في التعبير عن المطالب، وانخفاض السجال الفكري والروابط الثقافية بين العمل المجتمعي الرفيع والأطراف المعبر عنه، إلا من رحم ربك!
ولا يغرب عن نظر المتتبع أن الملك محمد السادس، كما في اعتقاد كاتب السطور، منح "للدولة وضعاً اعتبارياً جديداً"، وهو وضع ليس رمزياً ولا معنوياً، بل مكانة جديدة في عُمق المغرب الذي يُبنى، وذلك بإعادة تعريفها ترابياً ووظيفياً واجتماعياً وهو ما يهمنا هنا من حيث: العمل على إنشاء الدولة الاجتماعية واضحة المعالم. وبتعريفها دولة اجتماعية، تباشر تنزيل مطالب المغاربة، وتحرص على اعتبارها جزءاً من تشكُّلها، تنتقل الدولة من وضعية الطرف المتلقي للمطالب الصاعدة من المجتمع. وبالتالي، إدارة ما يرتبط بها من احتجاجات، قد يصل إلى ممارسة العنف المشروع، إلى وضعية الطرف المنتج لوظيفة اجتماعية داخل المجتمع، بل الحرص على تحقيقها بتفوّق في الأداء أحياناً على أطرافٍ أخرى في المجتمع ذاته. وقد كانت لحظة إنتاج "النموذج التنموي الجديد" بهذا المعنى خطة الدولة لدى الملك، باعتبار أنه هو من طلب هذا النموذج، لتحويلها إلى حاملة خيار الإصلاح الاجتماعي العميق، والنموذج هو التغطية الاجتماعية التي تكلف الدولة 51 مليار درهم سنويا، ما يعادل كلفة جميع الاتفاقيات الاجتماعية مع النقابات عقداً.
والهاجس الأكبر للمناضلين، كما للفاعلين الاجتماعيين، هو كيفية تجديد نشاط القوى النقابية حتى تصبح معنية أكثر بتطور المقاربة الاجتماعية لفعلها المدني. وهناك وعي بأن "دولة اجتماعية قوية لا يمكن أن تقوم إلا مقابل مجتمع قوي"، وإذا اختلت المعادلة، فإن النتيجة لن تكون إيجابية بتاتاً.
ومن عناصر الاختلال أن يسمح المجتمع بموت بروليتاري طبقي لتنظيماته، والإبقاء عليها حية في موقع الشبح، كما في قصة سليمان و"دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ" لا قدّر الله!