صورة البقرة
يوشك التردّد أن يقتل صاحبه ... بهذا المعنى، كان رهطٌ من المحرّرين العرب، في إحدى الصحف، منهمكين في حلّ سؤال مصيريّ بشأن جواز نشر صورة بقرة في صفحةٍ يعلوها خبر عن "الرئيس". أما البقرة فتتعلّق بخبر آخر عن تدهور الثروة الحيوانية في البلد، ولا سيما بين الأبقار، وكان لا بدّ من نشر الصورة، تعزيزًا للخبر. وبعد لأي، وأخذٍ وردّ، استقرّ الرأي على ضرورة نقل الخبر إلى صفحة أخرى بعيدة، بما في ذلك الصفحة المقابلة لصفحة خبر الرئيس، لأنه "لا يجوز أن تتقابل صورتا الرئيس والبقرة"، على الرغم من أن خبر البقرة كان حديث الساعة في ذلك الحين، ويستحوذ على اهتمام قطاعات كبيرة، كمصانع الألبان ومربّي المواشي.
بهذا المعنى، في وسعنا الدخول إلى إشكالية مشروع قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقرّه مجلس النواب الأردني أخيرًا، بانتظار أن يستكمل دورته التشريعية مرورًا بإقراره من مجلس الأعيان، ثم المصادقة الملكية عليه. والحال أن هذا القانون على الرغم من أنه جوبه بجدلٍ حادّ في الأوساط القانونية والصحافية، بل وحتى النيابية ذاتها، غير أن إقراره لم يستغرق غير جلسة واحدة من النواب لم تتجاوز ست ساعات، ما أثار استغرابًا لا يقلّ عن نظيره الذي سبق إقرار القانون، وخصوصًا أنه يفيض بعقوباتٍ لم يألفها المواطن الأردني من قبل، كالغرامات الباهظة، والسجن سنوات، لقاء جرائم إلكترونية، يتّصل معظمها بالتشهير والابتزاز، والانتحال، عن قصد أو من دونه، وترك للنائب العام وحدَه أن يحدّد تلك الجرائم، ومنحه حقّ رفع الدعوى حتى بلا شكوى من الضحيّة المفترضة.
وثمّة من يتساءل عن العلاقة بين البقرة وهذا القانون الذي أتمنّى أن لا يرى النور، على الرغم من أنني قرأت معظم بنوده، ولمستُ أنه يحمل في ظاهره الرحمة، وفي باطنه العذاب. صحيحٌ أنه موجّه، في معظمه، إلى جرائم لا يختلف اثنان على ضرورة العقاب عليها، غير أن مثل هذه الجرائم عولجت في قوانين سابقة، ويمكن البناء عليها في تلك القوانين من دون الحاجة إلى هذا التخصيص بقانون منفرد. وذلك يقودنا إلى "المخفيّ الأعظم" في مثل هذه القوانين التي تُحاصر المواطن الأردنيّ، وتجعله متردّدًا حائرًا، بين الجائز وغير الجائز، وبين المقدس والمدنّس، على غرار رهط الصحافيين إياهم الحائرين بين البقرة والرئيس.
أيضًا، يقودنا ذلك إلى جدلية "الألغام" و"حقل الألغام"، فالحقل قد لا يحوي غير لغم واحد، أمّا الحقل ففضاء شاسع، والمطلوب أن يتّسع هذا الحقل، ويستطيل أزيد فأزيد، ليغدو هو اللغم ذاته الذي على المواطن تجنّبه، اتقاء لـ"الشبهات"، ولا سيما في الفضاء الإلكتروني الذي بات يجتذب ملايين الأردنيين، وغدا متنفّسًا، وملاذًا، وحمامًا زاجلًا، لنقل الأخبار، وتداولها، والتعليق عليها، مثلما أصبح كاشفًا عورات المسؤولين، وهذا ما ينبغي وضع حدّ له، لأن "كشف العورة" ممنوع، ويعاقب عليه القانون.
وفي الخلاصة، قد لا يحمل القانون ألغامًا كثيرة، ولا يجرّم أفعالًا اعتاد عليها مستخدمو وسائل التواصل من الأردنيين، لكن المطلوب أن يشعر هؤلاء بالرعب عند أدنى استخدام للفضاء الإلكتروني. ومن ذلك، مثلًا، تجنّب متابعة فئة "معارضي الخارج"، الذين يبدو كأن بعضهم بات يثير حفائظ مسؤولين وسخطهم، ومن ثمّ تجنّب تناقل أشرطة بثّهم كما يحدث الآن، فمثل هذا التداول قد يُدرج تحت بند "تداول أخبار مضللة".
المطلوب، باختصار، مزيد من الحياد السياسي، الذي يتصف به المواطن الأردني نتيجة عقود من التهميش. وفي مقابل ذلك، سرعان ما ترتدي الحكومة ثوب البراءة، عندما تُسأل عن سبب هذا الحياد، فتجيب إن المواطن هو من يختار هذا الحياد، بنفسه، وهو من اجتهد وقرّر وحده، ولا ذنب علينا، فنحن لم نمنعه من دخول حقل الألعام، بل نبّهناه إلى اللغم نفسه... وهو وحده من اختار أن ينقل صورة البقرة إلى الصفحة الأخيرة.