صوامع الحبوب الأوكرانية
لا تحتل أوكرانيا المراتب الأولى عالمياً في إنتاج الحبوب في العالم، فتلك تحتلها دول مثل الولايات المتحدة والهند والبرازيل وكذلك الصين. وتقول إحصاءات عام 2021 إن أوكرانيا أنتجت 86 مليون طن من الحبوب، لكن أهمية أوكرانيا تأتي بوصفها أول مصدِّر لهذه السلعة المهمة، فالدول ذات المراتب الأولى في الإنتاج واسعة، وفيها عدد سكان كبير، يستهلك جل ما تنتجه، في حين أن الإنتاج الأوكراني فائضٌ عن الحاجة، ولذلك يعدّ معظمه للتصدير. وتَعتبِر منظمة الغذاء العالمي (فاو) أوكرانيا صومعة حبوب عالمية، ففيما أنتجت ما نسبته 3% من محصول الذرة في العالم، صدّرت ما مجموعه 16% من صادرات الذرة العالمية! وبحسب المنظمة، فإن نصف زيت عبّاد الشمس يأتي من أوكرانيا أيضاً .. تعطي هذه الأرقام أهمية خاصة لهذا البلد، وتجعل عيوناً عالمية كثيرة تتجه إليها، وهي تأمل أن تنتهي الحرب سريعاً، ليعود التدفق الغذائي إلى سابق عهده، وقد أصيب بانهيار خطير بعد العدوان الروسي في فبراير/ شباط، فقبل بدء الحرب، كانت أوكرانيا تصدّر حوالى ستة ملايين طن من القمح شهرياً، ولم تتمكّن خلال شهر فبراير/ شباط من تصدير أكثر من 300 ألف طن فقط، وهو رقم يعكس عوز السوق الشديد، ويبرّر تخوّفه من ارتفاع جنوني للأسعار من جديد مع استمرار هذه الحرب.
لم تقترب الصواريخ والقنابل الروسية المتهاوية على الأوكرانيين من خطوط نقل الغاز والنفط، ولا من صوامع الحبوب المليئة، إلّا بالقدر الذي يسمح لها بالسيطرة على هذه الصوامع، وسرقة ما فيها، فيما تقول السلطات الأوكرانية إن لديها أكثر من عشرين مليون طن من القمح مخزّنة، مع إمكانية حصاد أكثر من أربعين مليون طن أخرى من الحبوب في الحقول التي هجرها الجميع، للانضمام إلى الحرب، أو هرباً باتجاه الغرب. كلّ هذه المعطيات التي طفت فجأة على السطح وضعت أوكرانيا في موقع حسّاس، وخروجها من بيت الطاعة الروسي، ومعها كلّ تلك الثروة ومكامن القوة، يجعل بوتين في موقف أكثر ضعفاً، وهو الذي شنّ حربه تحت ذرائع عديدة، واضعاً أمام عينيه كلّ الشرق الأوكراني، وبعدما سيطر على مدينة ماريوبول، أصبح يظن أنّ كلّ الشاطئ الأوكراني على البحر الأسود صار متاحاً، وقد يكون هدفه التالي مدينة أوديسا.
كان بوتين قد أجرى بروفة عسكرية قبل أن يبدأ الحرب على أوكرانيا بإعلان البحر الأسود وبحر آزوف منطقة مناورات عسكرية ما بين 13 و19 فبراير، فتوقفت حركة الملاحة الدولية فيهما، وبدأت المعاناة العالمية، وأرفق بوتين إعلانه بإطلاق النار على أكثر من عشر سفن كانت في المنطقة، فضلاً عن إغراق سفينة إستونية، من دون أن تكون هناك ردة فعل قوية من الغرب، بل جاءت من الأسواق التي ردّت بارتفاع الأسعار بشكل لافت، بعد محاصرة شريان الحبوب والطاقة المتدفق، وزاد الارتفاع طبعاً مع بدء الحرب، واستمرّ.
يحتفظ بوتين بقواتٍ في منطقة ترانسنيستريا، وهي منطقة انفصالية أخرى، موجودة في جمهورية مولدافيا على طول الحدود مع أوكرانيا، يمكن أن يستخدمها في إحكام الحصار البحري والتقدّم نحو أوديسا تمهيداً لمحاصرتها، وهو سيناريو، إن حصل، يعطي بوتين إمكانية إحكام السيطرة شبه الكاملة على موانئ البحر الأسود وبحر آزوف، وهو ما يعدّ ربما ردّاً على محاولة حلف شمال الأطلسي ضمّ السويد وفنلندا، التي ستجعل بحر البلطيق بحراً تابعاً للحلف بشكل شبه كامل. لكنّ الحلّ العسكري الذي قد يوقف السيطرة الروسية على أوديسا أو يؤخرها، تدمير قوات بوتين البحرية من بعد، وهو ما يقوم به الرئيس بايدن الآن، بموافقته على تقديم معدّات عسكرية بعيدة المدى وفائقة التفجير، ما يجعل بوتين يعيد التفكير قبل البدء بالهجوم التالي، فيما الأسعار ترتفع، وصوامع الحبوب الأوكرانية تمتلئ بالغذاء الضروري للعالم.