صواريخ داخل الائتلاف الحاكم
الضربات الصاروخية التي توجّهها فصائل مسلّحة عراقية نحو السفارة الأميركية في بغداد، أو المعسكرات التي يوجد فيها متعاقدون أميركيون، كما قاعدة عين الأسد غربي العراق، أو قاعدة حرير قرب أربيل شمالي العراق، ليست بالأمر الجديد، فقد تعوّد العراقيون، على مدى السنوات الماضية، سماع أنباء عن توجيه مثل هذه الضربات، كما أن الجهات المتّهمة بتوجيهها باتت معروفة أيضاً، ولعل أشهر حادثة تلك التي حدثت حين ألقت قوّات مكافحة الإرهاب في يونيو/ حزيران 2020 القبض على خلية أطلقت الصواريخ على السفارة الأميركية، واضطرّ رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في وقتها إلى إطلاق سراحها، بسبب التهديدات والضغوط السياسية، وكانت الحادثة كاشفة عن تداعي الدولة أمام سلطة الجماعات المسلّحة، وعرّفت الجمهور العام بالحدود الضيقة التي يمكن أن يتحرّك بها صاحب أعلى سلطة تنفيذية في البلاد.
فُهمت الصواريخ في التداول العام على أنها، غالباً، لم تكن لتهدّد المصالح الأميركية بجديّة، بقدر ما يتم استعمالها لتوصيل رسائل سياسية، وهي رسائل إلى الداخل، أكثر منها الى أميركا، وللحضور الإعلامي وتسجيل المواقف. ولكن هذه الفرضية تصدُق كثيراً في ظل الحكومات السابقة، والتي كانت التيارات السياسية وذات الأذرع العسكرية المقرّبة من إيران جزءاً منها، وليست الماسكة كل مفاصل السلطة كما هو الحال اليوم.
لماذا تحرج هذه الفصائل بصواريخها حكومةً هي من جاءت بها؟! ولماذا يردّ رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، وتحالف الإطار الداعم له بنبرة حادّة هذه المرّة، ويصف جماعات شيعية بـ"الإرهاب"، وكانت الأدبيات السياسية الشيعية قبلها قد تعوّدت على نمطٍ من توزيع الصفات، يجعل الأعمال المخلّة بالأمن التي تقوم بها جماعاتٌ شيعيةٌ تحت بند "جماعاتٍ خارجة على القانون"، أما الجماعات السنيّة فتوصف بشكل تقليدي بأنها "إرهابية".
في أزمة تشكيل الحكومة التي كان يحاول مقتدى الصدر في غضون العام الماضي، طرح المعارضون الشيعة أنفسهم جبهةً واحدة، ونفوا أن تكون هناك انقساماتٌ بينهم، وأن "الإطار التنسيقي" الذي شكلّوه، في البداية، للتحاور، وإيجاد توافقات للردّ على الصدر، قد تحوّل إلى كتلة نيابية متماسكة. لكن الوقائع تقول إنهم لم يكونوا كتلة واحدة، وبقوا مجرّد تيارات متباينة في توجّهاتها، جمعتها مصلحة الوقوف ضد الصدر، ثم حين وصلوا الى السلطة طفت الانقسامات فيما بينهم على مدى العام الماضي. ومع عودة الصواريخ المحرجة للحكومة، خرجت هذه الانقسامات إلى العلن، وهي انقساماتٌ قد تعكس تباين الأطراف الراعية داخل إيران نفسها، ما بين الحرس الثوري والاستطلاعات (المخابرات) والخارجية الايرانية، ضمن لعبة تنوّع الأدوار والمحاور، وقد تكون انعكاساً داخلياً على المصالح والمكاسب، والنفوذ داخل مؤسسات الدولة.
التحدّي الحقيقي الموجّه إلى الحكومة العراقية الآن ليس في نوع الجواب الذي يمكن أن تطمئن به الادارة الأميركية، وإنما في الردّ العملي في هذا المنعطف الذي لطالما وقفت عنده الحكومات السابقة وفشلت في مواجهته، فإن كانت الفصائل المقرّبة من إيران كانت تلجأ إلى هذه "المشاغبات" في وقت سابق، من أجل مزيد من النفوذ السياسي، أو من أجل الاستيلاء على السلطة بالكامل، فإن هذا الهدف قد تحقّق. ومن المنطقي أن تتوجّه هذه القوى إلى تدعيم سلطتها، ومحاولة تكريس شرعيّتها عند الجمهور العام.
هل يكفي تطمين هذه الفصائل، المتمرّدة على إئتلافها الحاكم، ببعض المكاسب الداخلية، أم أن الأمر يتعلق بتوجّه إيديولوجي وعقائدي وليس بمصالح منظورة؟ ولكن، هل ينفع إيران، الراعية لهذه الفصائل والمستفيدة من ريع العراق، أن يدخل العراق في مأزق دولي، ويخرّب علاقته مع الولايات المتحدة، وهي الماسكة بواردات الصادرات النفطية؟ لطالما تكرّر هذا السؤال في السنوات الماضية، والمتغيّر اليوم أن الأزمة هي داخل الائتلاف الحاكم نفسه، وليس بينه وبين معارضيه في التوجّهات والرؤى.
التفكّك واضح في الائتلاف الحاكم، ويمكن أن "يتفجّر" وتتشظّى تياراته السياسية إن قرّرت أميركا توجيه ضرباتٍ عقابية داخل الأراضي العراقية.