صندوق النقد الدولي وسياسة إشعال الحرائق
مع تصاعد الأزمات التي تضرب الاقتصاد العالمي، والوضع الذي آلت إليه بعض الاقتصاديات العربية التي شارفت على الانهيار، يعود الحديث عن مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قروض من أجل إنعاش الظروف الاقتصادية المتهالكة في دول عربية مختلفة، مثل تونس ومصر ولبنان.
لم تتوقف سياسة الاقتراض من البنوك الدولية يوما، وعلى امتداد يزيد على ستة عقود، من دون أن تحقّق هذه القروض المأمول منها، أعني إصلاحا اقتصاديا جذريا وتحسين الوضع المعيشي للبلدان المقترضة. ظلّت مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد تؤكّد، دوما، أن المجموعة تعمل مع البلدان النامية على الحد من الفقر وتعزيز الرخاء المشترك، وأنها تقدّم المشورة والمساعدة العملية للدول التي تواجه مشكلات في ميزان الدفوعات. وككل خطاب دعائي، ينبغي أن يكون جذّابا ومؤثرا، ظلت مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تسوّق، منذ التأسيس سنة 1944، الدعايات، رغم أن نتائج الممارسة العملية لهما على الأرض كانت دوما تؤدي إلى نقيض ما يزعمان إنهما ينجزانه لصالح الدول الأقل نموّا والأكثر تخلّفا.
لم تكن التجارب العربية مع سياسات هذه المجموعة أمرا يمكن الثناء عليه أو تقديره، بل على النقيض من ذلك تماماً، كانت الأزمات تتصاعد كلما اتخذت الحكومات خطواتٍ لتنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي ومطالبه القاسية، والتي تفضي غالبا إلى حرائق اجتماعية واسعة.
الصندوق لا يتبنى مواقف سياسية معلنة إلا أن الأكيد أنه يمثل الذراع المالية للمنظومة الاقتصادية الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة
المعروف أنّ "النصائح" التي يقدّمها صندوق النقد الدولي للبلدان التي تطلب رضاه لا تخرج عن وصفة جاهزة تتضمّن جملة من الشروط التي صيغت في صورة خدمات، وتقوم أساسا على تحرير سعر الصرف ورفع الدعم عن المواد الأساسية، وفي مقدمها المواد الغذائية والمحروقات. وتقليص الميزانيات المرصودة لشبكات الأمان الاجتماعي المتعلقة بالفئات المهمّشة والأكثر فقرا والتوجه نحو خيار خصخصة مؤسسات القطاع العام في مجالات الصحة والنقل، وصولا إلى إعادة هيكلة قطاع الوظيفة العمومية، أي خفض الرواتب أو تجميدها مهما أصبحت نسبة التضخّم، إضافة إلى إعادة النظر في المعاشات التقاعدية تمهيدا لإلغائها أو على الأقل تجميدها.
لم تكن هذه الوصفة لتتغير إلا ببعض التفاصيل القليلة بحسب البلدان التي تطلب مساعدة الصندوق، وغالبا ما تفضي محاولة تطبيق وصاياه إلى أزمات اجتماعية حادّة تعقبها انتفاضات في الشارع الشعبي. وعلى سبيل المثال، شهدت تونس انتفاضة واسعة سنة 1984 على خلفية رفع الدعم عن سعر الخبز استجابة "لوصايا" صندوق النقد الدولي، ولم ينته عقد الثمانينيات إلا والبلاد قد وصلت إلى ذروة أزمتها الاقتصادية التي تمت معالجتها بالأسلوب نفسه، أي مزيد من القروض من الصندوق.
سياسة القروض المتتالية هي الأسلوب الأمثل لضمان التبعية الدائمة
رغم أن الصندوق لا يتبنّى مواقف سياسية معلنة، إلا أن الأكيد أنه يمثل الذراع المالية للمنظومة الاقتصادية الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة، وهي، بكل تأكيد، لا تفصل بين السياسة والاقتصاد، ولهذا كانت الدول التي تحظى بأولوية القروض من منظومة البنك الدولي وصندوق النقد هي المنخرطة ضمن الدائرة الأميركية، والأهم أن تكون ذات أنظمة ممتثلة للخيارات الرأسمالية الدولية. ولهذا لا تجد ضمن شروط منظومة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي فرض الحريات أو الدفاع عن حقوق الإنسان، بل هي تخيّر التعامل مع أنظمة الاستبداد والحكم الفردي، لأن هذه تبدو أكثر قدرة على الإيفاء بالالتزامات واتخاذ إجراءات قاسية. ولم يكن مستغربا مثلا أن تعلن مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني أن إمكانية اتفاق صندوق النقد على قرض لصالح الدولة التونسية، أصبح ممكنا أكثر بعد فرض دستور جديد يكرّس حكم الفرد الواحد.
تدرك هذه المؤسسات المالية الدولية أنها تقوم بدور أساسي في ضبط سياسات الدول النامية، وإذا أخذنا بالاعتبار غياب الشفافية وانعدام الحوكمة الرشيدة عن هذه الدول، ندرك أنّ سياسة القروض المتتالية هي الأسلوب الأمثل لضمان التبعية الدائمة، حيث يصبح الخيار الدائم لدى كثير من الأنظمة الحاكمة هو التورّط في مزيد الاقتراض وإثقال كاهل ميزان دفوعات البلاد أو فتح المجال أمام اضطرابات اجتماعية واسعة، هي أساسا ناتجة عن المديونية وشروط صندوق النقد، ولتستمر الحلقة المفرغة بين قروض تؤدّي إلى فوضى وانهيار أنظمة ثم محاولة إصلاح الأزمة الاقتصادية عبر قروض جديدة، هي بدورها لن تفضي إلا إلى أزماتٍ جديدةٍ في انتظار حصول معجزة تعد بها الأنظمة الشعوب، وهي تدرك أنها لن تحصل أبدا.