صندوق "الجماعة المسيطرة" الأسود وبناء البديل

03 سبتمبر 2021
+ الخط -

تمثل الظاهرة الاستبدادية، في مجموع عناصرها ومكوناتها والمفاصل الحاكمة لها، صندوقا أسود، يصعب استكشافه والبحث عن مكنوناته. ولعل الذين ألّفوا كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات، السلطة وترسيخها وانهيارها" (ترجمة عبد الرحمن عياش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021) إنما أرادوا بالبحث في معمل التاريخ للدكتاتوريات المختلفة في زمننا المعاصر واستخدام جملة المعلومات التي تكشفت حول انقلابات حدثت، ودكتاتوريات رسخت؛ في التعرّف على قصتها وتشريح مكوناتها وسياساتها واستراتيجياتها التي استخدمتها في العمل ومحاولتها البقاء. وفي هذا الإطار، فإن استخدام هذه الذاكرة التي تكونت واشتملت على أكثر من 240 واقعة، وبما توفر عنها من معلومات بعدما انقضت بعض هذه التجارب، فصارت كالكتاب المفتوح الذي تكشفت عنه كل الغيوم والظلمات، فبدت تلك التجارب بما خلفت من معلومات ودروس أمرا متاحا.

على الرغم من تلك الإشارة المهمة التي أكّدها المؤلفون "أن ما نعرفه من عمليات ترتبط بتلك الدكتاتوريات أقلّ بكثير مما نعرفه عن نظيراتها في الدول الديمقراطية، ذلك أن تلك النظم الدكتاتورية تتبع، في الغالب، سياسات التعتيم والتغييم، ويظل حجم المعلومات حولها نادرا باعتبار أن نظمها لا تحتوي على صندوق أسود، بل هي كلها وفي مجملها ومجمع ممارساتها وعملياتها صندوق حالك السواد". وعلى حد وصف الكتاب أيضا "عملية اتخاذ القرار الدكتاتورية غالبا ما تحدث في الظلام، في الوقت الذي تصنع فيه السياسات أو يختار فيه قادة الدول الديموقراطية بشفافيةٍ نسبية، وغالب هذه الأقليات تنزع إلى ما تتخذه المجموعات النخبوية الصغيرة في الأنظمة الدكتاتورية من قرارات، وما تصنعه من سياسات من قراراتٍ في سياقاتٍ غير رسمية".

غالبا ما تتخذ القرارات وما يجري بصددها من عمليات في مكان آخر غير المعهود وغير المرئي

ومن ثم، ليس عليك بالضرورة إن أردت فهم الآليات اليومية للعمل داخل الدكتاتوريات أن تبحث داخل المؤسسات الرسمية لها، فغالبا ما تتخذ القرارات وما يجري بصددها من عمليات إنما تتّخذ في مكان آخر غير المعهود وغير المرئي. إنها مسائل تحكم ظلمة هذا الصندوق الأسود المتعلق بالدكتاتوريات، ومحاولات فضّ أسرارها والقدرة على كشف المستور فيها والمقبور منها؛ والتي تحرص، مع حال استبدادها، أن تعمل في الخفاء وفي جنح الظلام. ومن هنا، على هؤلاء الذين يقومون بالبحث في هذا الصندوق الأسود أن يتمتعوا بقدرات بحثية أعمق، فلا يقفون عند أعتاب تلك الظواهر، بل يغوصون في أعماقها باحثين في مناطق لا تخطر على بال، في ما يتعلق بعمل تلك الدكتاتوريات وممارساتها الاستبدادية.

ولذلك، الصندوق الأسود لدى ديفيد أستون، أستاذ العلوم السياسية المبرز الذي أسهم في دراسة "النظام السياسي" وتشكيلاته وتفاعلاته وتحويلاته، والوقوف على صندوق أسود يحمل الأسرار التي تتعلق بعمليات التحويل في النظام السياسي، كما هو معروف في التعامل مع مدخلاته ومخرجاته، وما يتعلق بالبحث في المطالب والسياسات والقرارات، لعل هذا الصندوق الأسود هو ما اهتمّ به هؤلاء الذين بحثوا من خلال كتابهم، وما تضمنه من أفكار مهمة، ومن بينها الفكرة المفتاحية التي توفّروا على دراستها في إطارٍ جمع بين مستويين: الجماعة المسيطرة والنظام، ليخوضوا من خلال تلك التجارب التي حاولوا جمع معلومات متناثرة عنها هنا أو هناك، تتعلق بجوهر تلك الممارسات ومجالات تلك العمليات والمخرجات التي تتعلق بالسياسات والقرارات، فكان ذلك بحقّ اكتشافا مهما للتاريخ، باعتباره معملا للتجارب، كما أكد على ذلك مرارا وتكرارا أستاذنا المرحوم العلامة حامد عبدالله ربيع. ولعل تلك الممارسة البحثية، من خلال هذين المفتاحين والبحث فيهما، كانت مجالا لعمل هذا الفريق المهم الذي جمع بين الشارد والوارد، ونسّق بين المعلومات، وقدّم من الجداول والرسومات البيانية والأرقام ما أثقل كاهل هذه الدراسة، إلا أنه مثّل شواهد غاية في الأهمية في دراسة الظاهرة الاستبدادية والكيفيات التي تعمل بها تلك الدكتاتوريات.

شواهد غاية في الأهمية في دراسة الظاهرة الاستبدادية والكيفيات التي تعمل بها تلك الدكتاتوريات

وحقيقة الأمر أن انشغال هذا الكتاب بتجلية ظلمة ذلك الصندوق الأسود قد استطاع المؤلفون أن يمارسوه بأقصى حدٍّ من المنهاجية، وباتساع تلك المادة وامتدادها التي تتعلق بنماذج تلك الدكتاتوريات، وعلى حد قولهم، في تحديد خطتهم لجمع البيانات التي قامت عليها تلك الدراسة المتميزة، فقد اعتمدوا على مجموعةٍ من القواعد المفصلة لتحديد بدايات الأنظمة الاستبدادية ونهايتها. وبلا اختلاف عن معظم الأدبيات صنفوا تلك البلاد، من حيث كونها "ديموقراطية إذا كان قادة الحكومة فيها قد وصلوا إلى مناصبهم عن طريق انتخابات ديموقراطية مباشرة ونزيهة وتنافسية إلى حدٍّ ما، أو انتخابات غير مباشرة عن طريق المؤسسات التشريعية المنتخبة، أو الخلافة الدستورية لمسؤولين انتخبوا ديموقراطيا".

وظل بالنسبة لمؤلفي هذا الكتاب أن أكثر قرارات التصنيف صعوبةً هي التي تتعامل مع الانقلابات، والتي اختصوها بالتعريف أنها "الإطاحة برأس السلطة بواسطة أفراد من جيش الدولة نفسها"، وتكوّنت، وفق رأيهم، معظم الديكتاتوريات الحديثة على أيدي نوعين من الجماعات؛ مجموعات الضباط والجنود، ومجموعات المدنيين المنظّمين في أحزاب. وكانت تلك الملاحظة الدقيقة بحث أن لدى تلك الجماعات المختلفة التي تؤسّس للديكتاتورية ترتيبات مختلفة لتنظيم نفسها، ولاتخاذ القرارات والحركة بشكل عام، فالإجراءات والتقاليد التي تبنّى في جماعة السيطرة قبل وجود الديكتاتورية تؤثر فيمن يحكم بعد الاستيلاء على السلطة وخياراتهم السياسية الأولى، وشكل المؤسّسات التي تبنيها لتنظيم حكمها، وأن تلك الجماعات المسيطرة تعطي اهتماما قليلا كما يبدو للتفاصيل العملية لما يمكن أن تفعله بعد الإطاحة بالنظام القديم".

ليس عليك بالضرورة إن أردت فهم الآليات اليومية للعمل داخل الدكتاتوريات، أن تبحث داخل المؤسسات الرسمية لها

كان ذلك كله أمرا مهما ومفيدا في تجلية الظلمة عن جماعات السيطرة وسلوكياتها، والنظام الذي تعمل فيه أو أنشأته. وفي كل الأحوال، هذا الاهتمام الذي أولاه المؤلفون عن الأشكال التي يمكن أن تنتهي إليها تلك الدكتاتوريات، من خلال انقلابات مستجدّة عليها من خارج النظام، أو بروز تحوّلات على مستوى أو آخر تتخذ مسارا ديموقراطيا. ولكنه في ذلك لم يوضح لنا لماذا انتهت حالاتٌ إلى تلك النتيجة، وانتهت حالاتٌ أخرى إلى نتائج مغايرة. ويبدو أن طغيان الاهتمام بالصندوق الأسود لعمل الدكتاتوريات قد جعل المؤلفين لا يهتمون بالمتحصلات، وما آلت إليه تلك التجارب والأسباب الكامنة التي تجعل من نتيجة ما تحدُث في تلك الخبرات، أو لا تحدُث في تجارب أخرى.

وعلى الرغم مما قدمه الكتاب من جهد عميق للكشف عن سر الأسرار في الدكتاتوريات، فإنه لم يتوقف كثيرا عند المآلات وتفسيرها بالعمق نفسه الذي ناقش من خلاله العمليات. ولعل هؤلاء المؤلفين قد تحكّم فيهم ذلك التساؤل المحوري والمركزي الذي وقفوا عنده، وهو "كيف تعمل الدكتاتوريات والسلطة المتعلقة بها ترسيخًا وانهيارًا؟". وهنا لا بد من أن نعترف بأنه جهد عظيم يمكن الاستفادة منه بهذه المتحصلات الإيجابية، خصوصا في تفكيك الظاهرة الاستبدادية ومفاصلها، ولكن الأمر في الحديث عن البديل لتلك الظاهرة الاستبدادية ربما يكون مجال اهتمام لدراساتٍ أخرى لبناء البديل، وهو أمر اشترطه عبد الرحمن الكواكبي ضمن شروطه الثلاثة في الخروج من حال الاستبداد إلى حال مقاومته وبناء البديل له. ولعل هذه الأمور تحتاج من هؤلاء ألا يقفوا فقط عند حد تشريح الظاهرة الاستبدادية والتعرّف على صناديقها السوداء، على جلالة قدر هذه المهمة، وإنما الاهتمام ببناء البديل وتشييد الحكم الرشيد لا يقل أهمية.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".