صفقات تبادل الأسرى والمعتقلين في اليمن وتبعات الانتقائية
تأخذ بعض القضايا في اليمن حضورها الإعلامي وتأثيرها المجتمعي من تماسّها مع الراهن الصراعي، وبالتالي السياسي، وتأثيرها فيه، بحيث يجري إغفال أبعادها الإنسانية. وفي هذا السياق، تُعد قضية المعتقلين والمختطفين والمخفيين قسراً، وكذلك أسرى الحرب، أبرز القضايا التي يتم تصعيدها من وقت إلى آخر بمقتضى تحوّلات الحرب، إلى جانب اجتزائها وعدم إيجاد حلٍّ جذريٍّ لها، فعلى الرغم من أنها إحدى سرديات الحرب ومآسيها، وكذلك نتاج سياسة القمع التي تمارسها سلطات الحرب، فإنه جرى استخدامها سياسياً ومقايضاتها بملفات أخرى، ومن ثم تجاهل معاناة الآلاف من المعتقلين والأسرى، فمع اختلاف تعاطي فرقاء الحرب، بما في ذلك الجانب الأممي مع ملفّ المعتقلين والأسرى، جرى ربطها بالمسار السياسي باعتبارها مقدّمةً لتطبيع العلاقات بين الفرقاء، الأمر الذي أفضى إلى تعثّر صفقات التبادل، فمن اتفاق استوكهولم الذي رعته الأمم المتحدة، وأكّد على الإفراج عن جميع المعتقلين والأسرى، على قاعدة الكلّ مقابل الكلّ، إلى انعقاد الجولة السابعة من المفاوضات بين جماعة الحوثي والحكومة في جنيف أخيرا، تبقى قضية المعتقلين والأسرى رهنًا باشتراطات السياسي. ومع أن من المبكّر التكهن بنتائج جولة جنيف الحالية التي أكّد الطرفان على إتمام صفقة تبادل جديدة في شهر إبريل/ نيسان الجاري، إلا أنها، وفي حال تنفيذها، لن تنهي معاناة المفرج عنهم، ولا ستحلّ قضية منتظري صفقات تبادل أخرى.
شكّلت قضية المعتقلين والأسرى ملفاً حيوياً لفرقاء الحرب يحقّق لهم مكاسب عديدة، فإلى جانب مأسسته، أي إنشاء مؤسّسات تدير عملية العزل والاحتجاز وتنظّمه، وكذلك شؤون الأسرى والمعتقلين وتظلمات ذويهم، فإنها ظلّت إحدى قنوات مصادر تمويلها غير المباشرة، وذلك بإدارة صفقات مع الأهالي، للإفراج عن ذويهم مقابل دفعهم مبالغ مالية، إضافة إلى تكريس سياسة القمع وتخويف المواطنين في المناطق الخاضعة لهم، فضلاً عن اعتمادهم على استراتيجية الخطف من مناطقهم ومناطق التماسّ والطرقات البرّية ومعابر المدن والنقاط، إلى جانب الاعتقال لمبادلتهم بأسراهم من المقاتلين، ففي مقابل استثمار قضية المعتقلين المدنيين ورقة مقايضة في صفقات التبادل، فقد تعدّدت الوسائل التي يلجأ لها الفرقاء لإطلاق سراح أسراهم، إذ شكّلت عملية التبادل غير الرسمية من خلال الوساطات المحلية التي تنظّمها شخصيات اجتماعية ووجاهات قبلية، بمن في ذلك وسطاء ونشطاء، إحدى طرقهم لإطلاق أسراهم. ومع أن الوساطات المحلية تمكّنت من إتمام صفقاتٍ عديدة، والإفراج عن آلاف من الأسرى مقارنة بالأمم المتحدة، إلا أنها خضعت لسياسة المتحاربين وعكست تحيّزاتهم، وذلك بالإفراج عن المقاتلين الذين يتبعونهم والمقرّبين منهم، مقابل تجاهل المعتقلين المدنيين من عملية التبادل.
أنشأت اللجنة الأممية لجنة مشتركة من طرفي الحرب لمراجعة هويات المدرجين في كشوفات التبادل، لكن العملية ظلت رهنا بسلطة المتحاربين
وإلى جانب الوساطات المحلية، مثلت الوساطة الأممية قناة رسمية مهمّة لتنظيم عملية التبادل بين المتحاربين، فبمقتضى اتفاق استوكهولم، تم تحريك ملف المعتقلين والأسرى وترتب عليه إتمام صفقة تبادل انتهت إلى الإفراج عن 1650 أسيراً ومعتقلا في مطلع عام 2020، إلا أن البيروقراطية الأممية، وتعنّت أطراف الحرب وتوظيفها ملف المعتقلين أسهم في تعثر إتمام أي صفقات تبادل جديدة، على الرغم من اتفاقهما في مارس/ آذار الماضي على الإفراج عن 2223 معتقلا وأسيرا ومحتجزا، وإذا كان اتفاق السعودية وإيران بإعادة علاقتهما الدبلوماسية قد دفع وكلاءهما إلى استئناف جولة مشاورات إطلاق الأسرى والمعتقلين التي تشهدها جنيف حاليا، فإن هناك تعقيدات تعيق حلحلة هذا الملف الإنساني، إذ تعرف الآلية الأممية المتبعة في صفقات التبادل اختلالات جذرية تجعلها قاصرة وعشوائية، إذ تعتمد لجنة الإشراف الأممية، برئاسة مكتب المبعوث الأممي، وعضوية طرفي النزاع، على الكشوفات والقوائم التي يقدّمها الطرفان من دون إشرافها بشكل دقيق ومؤسّسي على هذه العملية، وإنشاء آلية شفافة تتيح لذوي المعتقلين والأسرى إدراج أسماء ذويهم في القوائم، الأمر الذي جعلها تخضع لانتقائية طرفي الحرب، ومع أن اللجنة الأممية أنشأت لجنة مشتركة من طرفي الحرب لمراجعة هويات المدرجين في كشوفات التبادل، فإن هذه العملية ظلت رهنا بسلطة المتحاربين، كما أن اشتراط اللجنة الإشرافية الأممية، وكذلك الصليب الأحمر بأن يكون إدراج اسم المعتقل أو الأسير في قوائم التبادل من خلال رفع القوى السياسية اسمه، وهو ما سيؤدّي إلى حرمان المعتقلين الذين لا ينتمون لأي قوى سياسية من صفقات التبادل، إضافة إلى أن حصر اللجنة الإشرافية الأممية لصفقة التبادل بطرفي الحرب يستثني معتقلين، وأيضا أسرى في سجون قوى أخرى ليست حاضرةً في جولة المشاورات، فضلا عن استثناء المعتقلات من عملية التبادل، ومساواة المدني بأسير الحرب، والأهم تجاهل اللجنة الأممية أو تواطؤها مع سياسة أطراف الحرب حيال المعتقلين والأسرى، وكذلك تجاهلها الأبعاد الإنسانية لصفقات التبادل على أسر المعتقلين والأسرى.
شكّلت جبهات القتال مصدرا لأسْر الجنود والمقاتلين من خصومها، على امتداد جبهات القتال في الجغرافيا اليمنية، باختلاف القوى المسلحة التي تحاربها
كيفت جماعة الحوثي، بوصفها سلطة أمر واقع وطرفا في الحرب، أجهزتها العسكرية والأمنية لمأسسة عملية العزل والاحتجاز وإدارته وفق سياستها القمعية لتثبيت سلطتها في المناطق الخاضعة لها، وأيضاً كورقة سياسة ضاغطة تحقّق مصالحها، بحيث تنوّع المعتقلين والمختطفين والمحتجزين في سجونها من المعارضين السياسيين إلى المواطنين والمنتمين لحلفائها من القوى السياسية والقبلية لضمان عدم تمرّدهم على سلطتها، بحيث أصبحت الطرف الذي يمتلك أكبر عدد من المعتقلين، إلى جانب استثمارها اقتصادياً من خلال أجهزتها ومندوبيها الذين يديرون صفقات تفاوضٍ مع الأهالي على الفدية أو ثم الإفراج عن ذويهم. وإذا كانت سياسة الخطف والاعتقال والمداهمة قد مكّنت الجماعة من مضاعفة أعداد المعتقلين المدنيين تعبر سنوات الحرب، فإن جبهات القتال شكلت مصدرا لأسْر الجنود والمقاتلين من خصومها، على امتداد جبهات القتال في الجغرافيا اليمنية، باختلاف القوى المسلحة التي تحاربها. في المقابل، فإن كونها جماعة مقاتلة تعتمد على مقاتلين لاستمرار حروبها جعلها تحرص على استعادة أسراها، وإن خضع ذلك لتراتبية المقاتلين الذين ينتمون لعصبتها الدينية وأولويتهم، ومن ثم فإن أي معتقل مدني هو مشروع مستقبلي للمبادلة، إلى جانب لجوئها للوسطات المحلية للإفراج عن أسراها لدى الأطراف الأخرى من قوى السلطة الشرعية سابقاً، المجلس الرئاسي حاليا، إلى تنظيم القاعدة، بيد أن صفقات التبادل الرسمية التي تديرها لجنة الإشراف الأممية احتلت أهمية مركزية بالنسبة للجماعة، فإلى جانب توظيفه سياسياً، فإنها تدرك أنها الطرف الأكثر ثقلا في أي جولة مشاورات، إذ إن الأعداد الكبيرة من المعتقلين في سجونها توفّر لها خيارات كثيرة لانتقاء أسراها في عملية التبادل، كما أنها، وخلافاً لمجلس الرئاسي، تمثل طرفا في جولات المشاورات، وبالتالي سلطة موحّدة وجبهة وحيدة مخوّلة للتفاوض، ومن ثم تمتلك قائمة محدّدة خاصة بها وبحلفائها من القوى المحلية، كما أن حيازتها معتقلين وأسرى في سجونها من شخصيات سياسية بارزة وقيادات عسكرية جعلتها تمتلك أوراقا لمساومة خصومها كأطراف متعدّدة، وليس كسلطة موحدة، فضلاً عن أن، وهو الأهم، الأسرى الأجانب في سجونها ورقة ضغط استراتيجية بالنسبة لها، فبالإضافة إلى 16 أسيرا سعوديا، لديها ثلاثة أسرى سودانيين، ومن ثم ستضغط الجماعة في جولة المشاورات لتحقيق مكاسب في ملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها، إلى جانب إدارة عملية التبادل للإفراج عن عدد مضاعف من أسراها مقارنة بالمجلس الرئاسي والتحالف بقيادة السعودية. ومع أن غياب البيروقراطية في الوساطات المحلية إلى جانب السرّية في تنظيم عملية التبادل يجعلها أكثر سهولةً بالنسبة للجماعة، كما تمكّنها من إطلاق أسراها، وذلك بالتفاوض مع كل قوى، ففي كل الأحوال، الأعداد الكبيرة من المعتقلين والمختطفين في سجونها تجعلها تملك احتياطيا متجدّدا لإدارة أي عملية تبادل، ومتى ما أرادت.
عملية التبادل تخضع تماماً كالحال عند جماعة الحوثي إلى تحيّزات سياسية ووساطات في اختيار أسماء المدرجين في الكشوفات
أفضى تعدّد القوى المسلحة وسلطات الأمر الواقع، في المناطق المحرّرة، إلى تعدّد أجهزة العزل والاحتجاز، ومن ثم تنوّع المعتقلين وتضاعف أعدادهم من معارضين وخصوم ومنافسين، إلى جانب المواطنين البسطاء. وإذا كان انضواء القوى المسلحة والمتصارعة في سلطة المجلس الرئاسي قد منحها مظلة سياسية، فإنه أيضا مثل بالنسبة لها أداة لشرعنة عنفها حيال خصومها، إذ إن اللافت أن قوى المجلس الرئاسي، على اختلافها، انخرطت من خلال الوساطات المحلية للإفراج عن أسراها في سجون جماعة الحوثي، مقابل رفضها إتمام أي صفقات تبادل بينها وبين حلفائها أو منافسيها. ومن جهة ثانية، وعلى الرغم من أن المجلس الرئاسي، من خلال الحكومة المعترف بها، السلطة التنفيذية، طرف في جولة المشاورات التي تنظّمها اللجنة الإشرافية الأممية، فإن من الصعب أن تعكس في كشوفات التبادل تمثيلا سياسيا للأسرى الذين ينتمون لقوى المجلس، كما أن عدم قدرتها، كجهة رسمية، على ضبط كشوفات المعتقلين والأسرى في سجون جماعة الحوثي، سيحرم مقاتلين كثيرين من صفقات التبادل، إلى جانب أن عدم امتلاكها أسرى أو معتقلين من القادة العسكريين أو السياسين المنتمين للجماعة يجعلها طرفا أضعف في جولة المشاورات الحالية أو أي جولة مستقبلية، إضافة إلى أن اختلال نسبة أعداد الأسرى من المقاتلين من منطقة إلى أخرى سيشكل ضغطا إضافيا على المجلس الرئاسي، وعلى القوى السياسية الموالية له، والتي قد تفشل في إدراج معتقليها في صفقات التبادل. ومع أن عملية التبادل تخضع تماما كالحال عند جماعة الحوثي إلى تحيّزات سياسية ووساطات في اختيار أسماء المدرجين في الكشوفات، فإن عدم شمول قوى المجلس في عملية التفاوض سيجعل من الوساطات المحلية الوسيلة الممكنة لإطلاق سراح مقاتليها.
أهالي المعتقلين والأسرى الذين أصبحوا في هامش الحرب قد يلجأون لأي وسيلة للإفراج عن ذويهم
صفقات تبادل أممية أو وساطات محلية، لا فرق بالنسبة للمضطر، فأهالي المعتقلين والأسرى الذين أصبحوا في هامش الحرب قد يلجأون لأي وسيلة للإفراج عن ذويهم. ورغم أن كثيرين اتجهوا إلى الوساطات المحلية، بعد تعثّر جولات المشاورات بين الفرقاء برعاية أممية، فإن الوساطة المحلية ليست متوفرة لكثيرين من الأهالي البسطاء، ولذلك ظلوا يراهنون على لجنة الإشراف الأممية باعتبارها جهة محايدة ستتكفل بإطلاق سراح ذويهم، إلا أن ذلك أخضعهم لابتزاز قوى الحرب لإدراج أسماء ذويهم في كشوفات التبادل، إلى جانب دفع الأموال لسماسرة يتبعونها.
وإذا كانت معاناة المعتقلين المدنيين مستمرّة وبلا حلّ، فإن لصفقات التبادل وتصنيف كل مدني معتقل أسير حرب من المآسي والآثار الاجتماعية ما يجعلها نكبة أخرى، ومن ثم معاناة إضافية، إذ تتضمّن صفقة التبادل في اشتراطاتها استبعاد المواطن - المعتقل من منطقته الأصلية التي ولد وسكن وعاش فيها، وفيها أسرته ومصدر رزقه، وتنقله إجباريا إلى منطقة الطرف الآخر، وهو ما يعني اجتثاثه ونفيه وحرمانه من حياته السابقة، إلى جانب ما يفرضه عليه ذلك من تغيير حياته ومصدر رزقه والتكيّف مع بيئة جديدة، وبالتالي التسبب بصعوبات ومخاطر حياتية، بما في ذلك المستقبل المجهول، كما أن الدخول في صفقات التبادل يؤدي، في حالات كثيرة، إلى شتات الأسرة، وذلك بتمزّقها بين مناطق سلطات الحرب أو إلى دمارها وطلاق الوالدين، ما يعني القضاء على أسرة بأكملها وتشريد الأطفال. إلى جانب هذه المآسي من اجتثاث المعتقلين والمختطفين والمحتجزين من مناطقهم الأصلية من أذى وتهجير قسري وقهري وتغيير ديموغرافي لصالح قوى الحرب، فإن الأهالي وإن لجأ بعضهم لصفقات التبادل لإطلاق ذويهم يكونون مجبرين في اختيار الطريق الأكثر مرارة وقسوة.