صعيد الكتّاب وصعيد المدرسة والمسلسلات

06 ابريل 2023
+ الخط -

ترى الصعيد في المسلسلات الرمضانية وقد انتفخ، كما يُقال، بتلك "النفخة الكدّابة"، والمبالغ فيها، على مستوى نطق اللهجة وعلى مستوى حبكة العمائم واللاسات الحرير والجلابيب الكشمير. أما الأسلحة، فحدّث ولا حرج، وكأنها قد خرجت توّا من أقبية جيش أميركي، أو سلاحليك عثماني.

لاحظ أن الكذب أيضا صناعة، ولا يجوز الغباء فيها، لأنها غالبا تثير الضحك. أما عن الصقور والخيل في ميادين الصعيد وخلائه، وتحت أكتاف جباله وقممه الشمّاء، فحدّث ولا حرج أيضا. المهم أن تكون هناك تلك الصقور والغربان، ولا مانع من وجود عرّافةٍ لها وشم على ظهر كل كفّ وعلى رقبتها كيلو من الفضة وأربعة خواتم وربع كيلو من الكحل، وكل مُخرج وشطارته في انتقاء كلمات العرّافة، هذا إن كان هناك ذلك المخرج من الأصل، بعد ما سيطرت البطلة وطاقمها على أعصاب المنتج تماما، والمخرج وقد ترك لها الكاميرات والأستديو وتفرّغ لالتهام القهوة والفطائر والعكاوي، وتم اقتياده إلى جهة مجهولة بأمر البطلة وعصابتها، وخصوصا إن كان التصوير في شرم الشيخ.

أتذكّر ما قيل، بعد نجاح فيلم سعيد صالح "العرضحالجي". أن المخرج ارتدى النظّارة وقال "استوب"؛ وما إلى ذلك من جرّاء خروجات سعيد صالح على النص، فمات سعيد صالح على أوامر المخرج من الضحك، قائلا له "لا استوب ولا اما استوباش، يا واد يا مخرج، اقعُد مكانك، والفيلم هيجيلك في العلب يا حبيبي تمام". وكان ما قاله سعيد. والمضحك أن نجاح الفيلم استمرّ في دور العرض شهورا طويلة. أما هذه المسلسلات في صعيدنا فهي ضرورة رمضانية نفسية ومجتمعية وسياسية أيضا، وخصوصا على الموائد ودوارات العمد، والعائلات والكبراء، ولا مانع أيضا من وجود غزالاتٍ وقد خرجن من بيوت العمد والكبراء في المسلسلات وهي تقطف الورد، أو الأحصنة وهي تقرش السكر، حتى وإن كانت كل الخيول من كرداسة أو أبو المطامير، فهل هذه هي بلادُك التي تعيش فيها من سنوات أم جرى تبديلها ببلاد أخرى؟

في الكتاتيب، كنّا نذهب بالجلابيب، ونجلس على المصطبة الطينية للشيخ قاسم أو خلف الله أو الشيخ أبو صبرة الذي لم أطق قسوته من أول يوم، فهربتُ بجلدي وتركت زميلي شعبان. الغريب أن الملحن عمّار الشريعي حكى عن كتّاب أبو صبرة ومكانه بالفعل على بعد 50 مترا من قصرهم القديم، فكيف نزل عمّار، وهو الطفل الكفيف، ذلك المنزل الصعب تحت جسر الإبراهيمية، حتى استقرّ به الحال فوق مصطبة الشيخ أبو صبرة، وبجواره الجلدة والعصا، فهل يجرُؤ الشيخ أبو صبرة، مثلا، أن يلمس جلد الطفل الصغير عمّار بالعصا أو الجلدة. ودعنا الآن من كم البراغيث فوق تراب أرض الكتّاب أيضا أو حتى طلوع الجسر. المؤكّد أن عمّار دخل الكتّاب، فهل دخل برفقة المربية أو الخفير أو شيخ الخفراء، وهل لامس عمّار العصا أو الجلدة، وهل ضحك عمّار أو ابتسم حينما كان الشيخ أبو صبرة يخطّ على لوحه الصفيح بسن الغاب والحبر يسيل. وفي اليوم التالي، يمسح عمّار اللوح من الحبر بقشر الليمون كما كنّا نفعل، وهل عاد عمّار، بملابسه النظيفة، مع المربّية عصرا وقد غطّى الحبر أصابعه، لكن من المؤكّد أن عمّار دخل كتّاب الشيخ أبو صبرة، ولكن ذلك الدخول يشبه تماما لقطة المسلسلات للعمُدة، وهو يأكل المشّ مع الفلاحين، ويضحك؛ وهذا بالضبط ما تفعله المسلسلات في الصعيد.

أما عن كتّاب الشيخ خلف الله رحمة الله عليه، وعن سبورته الصغيرة التي كانت تكفي بالكاد لتسعة أحرف بخط كبير، وفي نهاية يوم الأربعاء يقول، ونحن نردد من خلفه: "بكرة الخميس ما حدّش ينسى خميسه"، بشرط أن يقولها ثلاث مرّات على غرار: "تحيا مصر". والمضحك أيضا أن الفقير منا كان ينسى "القرش صاغ". أما الحفاة من أولاد الفقراء جدا فقد كان أغلبهم يهرُب من الكتّاب قبل يوم الخميس. والغريب أن أشباهم في المدرسة كنّا نراهم في الصفوف الأخيرة، إلا فيما ندر. وفي الفصل الرابع أو الخامس كان معظمهم يهرب إلى الغيطان أو لشراء "قرب الجلد القديمة" من القرى المجاورة، لإعادة تدويرها في المصانع أو العمل في المحاجر أو المخابز أو الهرب في السبعينيات من القرن الماضي "سلكاوي" للعمل في ليبيا. وكان لي صديق اسمه علي، لم أره من بعد ثانية إعدادي وكان يعرج خفيفا. سألت عليه من سنتين واحدا من قريته، فكان ردّه أن "عليا هذا هرب إلى ليبيا سلكاوي يعرج وهو صغير ومن يومها لم يعد ثانية"، فهل هذه الصقور والعمائم المزهرة حقا في الصعيد، أم في صعيد آخر لم أعش أنا فيه؟

دلالات
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري