صراع على أشلاء سورية أم على أشلاء العالم العربي؟
كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.
ليس الصراع الضاري الجديد بين أشلاء ما كان يعرف بسورية فريداً، ولا يشكّل استثناءً في العالم العربي. انظر حولك، وانْسَ لحظة الدور الشيطاني لإسرائيل في غزّة ولبنان. هناك صراعات دامية تجري منذ سنوات بين أشلاء السودان وأخرى بين أشلاء اليمن، وصراعات أقلّ دمويةً تزداد حدّتها من حين إلى آخر تجري بين أشلاء العراق، كانت قد بدأت في زمن صدّام حسين، وصراعات رابعة تجري بين أشلاء ليبيا، وُضِعت بذورها منذ زمن معمّر القذافي.
جرت منذ 17 عاماً مواجهة مسلحة بين أشلاء فلسطين في الضفة الغربية وغزّة، ما زال الفلسطينيون يدفعون ثمنها، رغم جهود الوسطاء وجولات الحوار العبثي نحو عشر سنوات، من الدوحة إلى القاهرة إلى الجزائر إلى موسكو وبكين، ما زالت حركتَا فتح وحماس عاجزتين عن التوصّل إلى توافق، حتى بعد حرب إبادة في غزّة ذهب ضحيتها نحو 45 ألف شهيد، يأمل بنيامين نتنياهو من خلالها ابتلاع غزّة، بينما يواصل المستوطنون قضم الضفة الغربية بنهم ووحشية أكبر.
في لبنان فرض حزب الله سلطته بقوة السلاح على الشعب اللبناني وحكومته منذ 16 عاماً، ورفض الامتثال لقرار الحكومة بحظر شبكة الاتصالات الهاتفية التي أنشأتها إيران لأعضائه بمنأىً عن سيادة الدولة اللبنانية. الدولة التي حوّلها الحزب تدريجياً أشلاء عاجزة حتى عن انتخاب رئيس جمهورية لها منذ عامَين، أو التحقيق في أكبر انفجار غير نووي في العالم في ميناء بيروت. ثمّ اتخذ الحزب العام الماضي (2023) قراره بزجّ الدولة في حرب مع إسرائيل، من دون استشارة أيٍّ من مؤسّساتها السيادية، مكتفياً بضوء أخضر من دولة أجنبية؛ إيران.
التوصل إلى وقف لإطلاق النار بالأمس في لبنان، وربّما في غزّة غداً، خطوة إيجابية، تتيح على الأقلّ التقاط الأنفاس ودفن الضحايا وترميم بيوت النازحين، ربّما قبل جولات أخرى محتملة. لكنّ وقف إطلاق النار (في لبنان وغزّة) لن يؤدّي إلى وقف النزاعات الأهلية المسلحة الجارية في سورية ولا في السودان واليمن وليبيا، ولن يوقف استثمار دول غير عربية (إسرائيل وإيران وتركيا) في أشلاء المنطقة أو قضم بعض أشلائها وإلحاقه بها. وبالطبع؛ لن يحلّ وقف إطلاق النار الأزمة المزمنة للعالم العربي، التي تأخذه إلى قاع العالم منذ أكثر من نصف قرن.
لن يحلّ وقف إطلاق النار الأزمة المزمنة للعالم العربي، التي تأخذه إلى قاع العالم منذ أكثر من نصف قرن
اختزال نُخبٍ سياسية وثقافية هذه الأزمة في إسرائيل لا يساعد إلا في تأبيد الأزمة، وتوسيع نطاق هذا الوضع الكارثي العام. فضلاً عن أنه لا يساعد حتى في تمكين الشعب الفلسطيني من التمتع بتقرير مصيره بنفسه، ولا حتى في تقريب وجهات النظر بين "حماس" و"فتح". ليست الأزمة فقط في ازدواجية المعايير الدولية، بل أيضا في ازدواجية المعايير العربية. تكفي نظرة سريعة إلى قائمة المسؤولين عن عدم تطبيق قرارات مجلس الأمن والمحاكم الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، في سورية ولبنان والسودان واليمن وليبيا، وعن عدم تطبيق الحكومات العربية كلّها الالتزامات المترتبة من مصادقتها الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
المرجع الذي استند إليه ياسر عرفات، الزعيم التاريخي لكفاح الشعب الفلسطيني، عند توليه رئاسة سلطة الحكم الذاتي في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، كان (للأسف!) "الكتالوغ" الفاشل ذاته للحكّام العرب بعد الاستقلال، الذين بدأوا في تطبيقه قبل أربعة عقود من اتفاق أوسلو (1993). لم يغيّر عرفات حرفاً فيه، بل أضاف إليه وريثُه محمود عبّاس (أبو مازن) مسحةً بيروقراطية أكبر، وتعميقاً للتعاون الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. إسرائيل بالطبع مسؤولة بشراكة غير متساوية مع حكومات عربية عن النكبتَين الفلسطينيتَين الأولى (1948) والثانية (1967)، مثلما هي مسؤولة عن النكبة الفلسطينية الثالثة بعد عملية طوفان الأقصى. الطريق نحو النكبة الثالثة لم يشقّه الاحتلال الإسرائيلي وحده، هناك مساهمة فلسطينية لا يمكن التقليل من شأنها، رغم مشروعية مقاومة كلّ احتلال.
في منتصف القرن الماضي بدأت الدول العربية تباعاً تتحرّر من الاحتلال الأجنبي، وتحصل على استقلالها وتتهيأ الشعوب لقطف ثمار التحرّر والاستقلال. كان ذلك يتطلّب تركيز جهود الحكّام الوطنيين في تحرير وإطلاق طاقات الشعوب والأفراد في المجالات كافّة، خاصة المتّصلة بالنمو الاقتصادي وبناء الدولة، لكنّ الهمّ الرئيس للحكّام الوطنيين الجدد في أكثرية دول المنطقة كان تأمين انفرادهم بالحكم في مواجهة الشعوب، التي خرجت للتو من هيمنة سلطات الاحتلال الاستعماري. ولهذا الغرض، خاض بعض هؤلاء الحكّام معاركَ مع شعوبهم، أكثر ضراوة ووحشية من تلك التي جرت مع المُستعمِر، وانطوت في بعض الدول العربية على حروب إبادة ضدّ الشعوب، مثلما جرى في سورية في زمن حافظ الأسد (الأب)، ثمّ ابنه ووريثه "الجمهوري" بشار الأسد، وفي العراق زمن صدّام حسين، وفي السودان زمن عمر البشير. في دول أخرى مثل مصر وليبيا واليمن والمغرب جرت في مدار عدة عقود جولاتٌ داميةٌ متعدّدةٌ من الصراعات المسلحة على الحكم، بين الحكام داخل قصور الحكم وحول منازل قادة الجيوش، بالتوازي مع تعميم الاختفاء القسري للمعارضين السياسيين والمنتقدين أو اغتيالهم، وكذلك تعذيبهم بأبشع الوسائل في السجون وحتى الموت. لم يقتصر ضحايا هذه السياسات والممارسات على مواطنين وأُسَرهم، وطوائف وأعراق وجماعات سياسية وأيديولوجية، بل كانت الدولة ذاتها هي الضحية الأكبر سبعة عقود منذ الاستقلال الوطني. بالطبع ليس بسبب الاستقلال.
بعض الدول العربية وشعوبها في حال أسوأ ممّا كانت عليه منذ سبعة عقود
كانت هذه المرحلة التمهيدية والأكثر أهمية نحو تأهيل دول ما بعد الاستقلال للتحوّل التدريجي لأشلاء دول في مرحلة لاحقة، وذلك بعد أن تجرّأت الشعوب على المطالبة في سياق "الربيع العربي" بما كان يجب أن تتمتّع به في اليوم التالي لرحيل المستعمر، منذ نحو 70 عاماً. في هذا السياق، لا يُشكّل بشّار الأسد استثناءً في الوحشية أو انعدامَ الكفاءة أو الفساد. انكشاف هزال الحكم في سورية، وليس في غيرها، على النحو الذي نتابعه منذ 13 عاماً، هو نتيجة تفاعل هذه العوامل مع حقيقة أنها دولة متعدّدة الأعراق والطوائف، تهيمن على حكمها حتى اللحظة الطائفة الأقلّ عدداً. أغلبية ما بقي من الدول العربية يحكم بطرق عشوائية باعتبارها إقطاعيةً خاصةً وأشلاء شعوب. بعضها لا يدار بقواعد حاكمة متّفق عليها، حتى لو لم توضع هذه القواعد بآليات ديمقراطية. ولذا، فإنها مرشّحة لأن تنضمّ لطابور أشلاء دول في المنطقة. من المفارقات اللافتة في منطقتنا أن الجمهوريات فيها تدار بعقلية فردانية شخصانية سلطانية لا يجرؤ على اتباعها بعض ملوك وأمراء ممالك المنطقة وإماراتها. يشكّل رئيس جمهورية تونس لجنةً لتعديل الدستور، يختار هو أعضاءها، ثمّ عندما لا تعجبه يلقي باللجنة وتعديلاتها الدستورية في سلّة المهملات، ويعكف ليؤلّف بنفسه تعديلات كاريكاتورية يراها مناسبةً لإعادة انتخابه.
أقدم دولة تأسّست في المنطقة لا تستطيع أيّ مؤسّسة أو مسؤول كبير اتخاذ قرار فيها إلا بعد الرجوع لرئيس الجمهورية، الذي لا يشتهر بسعة الإدراك. لم تصر أكبر دولة عربية أشلاءَ دولة بعد، لكن مصر تدار من خلال أشلاء مؤسّسات يقاوم الرئيس الفرد فيها كلَّ محاولة متواضعة لإضفاء طابع مؤسّساتي على دولته، حتى لو لم تكن المحاولة المتواضعة ذات طابع ديمقراطي، بل إداري، مثل توحيد مالية الدولة في حساب واحد، بدلاً من بعثرتها في حسابات سراديبية لا يعرَف عنها شيء حتى الوزير المسمّى وزير المالية، ولا البرلمان الذي اخترعته البشرية من أجل الرقابة على صرف الأموال العامة. من يطالبون بإضفاء طابع مؤسّسي دولتي على أكبر جيش في العالم العربي، ووقف تحويله شبكةً أخطبوطيةً من شركات المقاولات والسياحة والسمسرة واستيراد السلع غير العسكرية، ينظر إليهم باعتبارهم خونةً أو متآمرين على الوطن، وتُلفّق لهم اتهامات بالإرهاب. قد تكفي نظرة مقارنة سريعة لكيفية إدارة إسرائيل شؤونها الداخلية وفق قواعدَ معلنةٍ وخاضعة لرقابة مؤسّسية، ولرقابة الصحافة، حتى وهي في حالة حرب متواصلة لأكثر من عام مع عدّة دول وأطراف، بل لا يستطيع رئيس وزرائها تأجيل محاكمته إلى ما بعد الحرب، حتى لو بدواعي الحرب أو الخشية من محاولة اغتياله. أعرف أن هذه المقارنة قد لا تخلو من إهانة للشعور القومي لكثيرين (أنا من بينهم)، لكنّها حقيقة مريرة أخرى.
تحويل دول عربية أشلاءً هي عملية تراكمية، نحن شهود عليها منذ الاستقلال، ولكن ليس بسبب الاستقلال، وأيضاً ليس بسبب إسرائيل، التي لها بالتأكيد أطماع توسّعية. مسيرة بذر بذور تحويل الدول المستقلّة حديثاً أشلاءً بدأت منذ اليوم الأول للاستقلال، حتى لو جرت خلف رايات كاذبة للتمويه وصرف الانتباه عن الأهداف الحقيقية. مزاعم مثل تحرير فلسطين ومواجهة الاستعمار وأعوانه. تحت هذه الرايات جرى تصنيف من كافحوا من أجل التحرّر من الاستعمار، سواء كانوا شيوعيين أو قوميين أو إسلاميين أو ليبراليين، باعتبارهم عملاءَ الاستعمار والصهيونية. هؤلاء دفعوا ومازالوا يدفعون ثمناً باهظاً، بينما صارت إسرائيل الدولة الوحيدة ما بعد صناعية في المنطقة، في الوقت الذي لم تفلح فيه أيّ دولة عربية بعد في التحوّل دولةً صناعيةً. واقع الحال أن بعض الدول العربية وشعوبها في حال أسوأ ممّا كانت عليه منذ سبعة عقود.
فشلت عملية إعادة تأهيل بشّار الأسد عبر جامعة الدول العربية فشلاً ذريعاً، حتى قبل اجتياح فصائل المعارضة المسلحة إدلب وحلب في أيام معدودة
تحوّل العالم العربي أشلاءَ دول جعله مطمعاً رخيصاً، ليس لإسرائيل فقط، ولكن أيضا لإيران، التي تتحكّم في إدارة الحكم في أشلاء سورية ولبنان والعراق واليمن. أيضاً تركيا، التي تحتلّ أجزاء من أشلاء سورية والعراق، وتمنح لنفسها حقّ النقض (فيتو) على كيفية إدارة العلاقة مع المواطنين الأكراد في أشلاء الدولتَين، كما تضع قدماً وازنةً في أشلاء ليبيا بالمشاركة مع مرتزقة "فاغنر" من روسيا. موسكو كان لها دور حاسم من خلال سلاحها الجوي في إضفاء لمسات حاسمة على تحول سورية أشلاء منذ نحو عشر سنوات، بالتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني ومليشيات حزب الله وجماعات مرتزقة من أفغانستان وباكستان والعراق. هل هناك تربة ومناخ أفضل من ذلك لميلاد وازدهار جماعات الإرهاب المسلّح أيّاً كانت المسمّيات!
توضح السطور السابقة كم هي مأساوية حال المنطقة ككل، وأغلبية دولها. حال غزّة أكثرها مأساوية، لكنّها ليست استثناء. هل هناك أمل لشعوب المنطقة ودولها في الخروج من هذا الوضع المأساوي الذي يتدحرج أمامنا ويأخذها إلى الهاوية منذ سبعة عقود؟... هناك حاجة ماسة لـ"تطبيع" العلاقات بين الحكام العرب، وبينهم وبين دولهم، ومع شعوبهم، خاصة مع النُخَب السياسية والثقافية. هذا المثلّث كان دائماً محكوماً عدّة عقود بـ"استثناء" بشتى الذرائع. نمط العلاقة شبه الحربية التي أطّرت العلاقة بين حكّام بعض الدول وشعوبها ونُخَبها السياسية والثقافية، كان له امتداداته في العلاقة بين دول وبعض تلك النُخَب، فوصمت بعض أبرز رموزها في دول عربية بعد استقلالها باعتبارهم أعوان الاستعمار، وترجم اتهاماتٍ لحكّام دول أخرى بـ"الرجعية". واقع الحال أن أعنف المواجهات جرت بين الدول العربية التي كانت توصف بـ"التقدّمية". التعلّم من الحكمة المؤسّسة للاتحاد الأوروبي سيكون مفيداً.
الأمل المحتمل هو بيد العقلاء في هذه المنطقة من الحكّام والنُخَب الحاكمة والنُخَب السياسية والثقافية، وشرطه الأول هو إدراك مدى هول القاع الذي نهوي إليه جميعاً. ليس مطلوباً خططاً عبقريةً أو مثالية (ولا بالأحرى حربية) للإنقاذ، بل سيناريوهات حكيمة تقود بعض الدول إلى برّ الأمان لتبدأ صفحةً جديدةً بدعم من شعوبها وبالتوافق مع المجتمع الدولي.
مبادرة السعودية بإنشاء تحالف دولي لحلّ الدولتَين في المسألة الفلسطينية خطوة واعدة بقدر التصميم والإرادة السياسية
من الضروري أن تسعى النُخَب السياسية والثقافية في ممارساتها وخطابها إلى نزع الطابع الحربي الصدامي عن الأيديولوجيات التي تتبناها (ماركسية أو قومية عربية أو إسلامية أو ليبرالية أو... إلخ)، لحساب السعي إلى التوافق وبناء الجسور داخل كلّ دولة، بما في ذلك مدّ الجسور مع الإصلاحيين داخل نُظم الحكم.
سورية محطّة اختبار عاجلة لمدى توافر حدٍّ أدنى من الحكمة والواقعية. عملية إعادة تأهيل بشّار الأسد عبر الجامعة العربية قد فشلت فشلاً ذريعاً، حتى قبل اجتياح فصائل المعارضة المسلحة إدلب وحلب في أيام معدودة. آن الأوان لعودة الحكام العرب إلي السيناريو الذي وضعه قرار مجلس الأمن 2254، الذي يحثّ على تدشين عملية سياسية فريدة، وأفسدته روسيا وإيران بتواطؤ تركيا.
مبادرة السعودية بإنشاء تحالف دولي داعم لحلّ الدولتَين في المسألة الفلسطينية هي أيضاً خطوة واعدة، بقدر مدى التصميم والإرادة السياسية الكامنة خلفها. تحقيق نجاح ملموس في هذين الاتجاهين يمكن أن يساعد على البدء في توليد ديناميكية إقليمية دولية جديدة قد تنعكس تدريجياً على باقي الملفّات، وتساعد على إعادة اللحمة للأشلاء التي بدأ تمزيقها منذ سبعة عقود، وتعيد الاعتبار للمواطن في منطقتنا.
هذه خواطر جالت في بالي بمناسبة مرور 76 عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.