في الصراع بين العلمانيين والمتديّنين على الجيش في إسرائيل
لا يستثني الصراع بين العلمانيين والمتدينين شيئا في دولة الاحتلال، وقد نشأ مع نشأة الدولة للسيطرة على مؤسساتها، غير أن الغلبة لم تكن للمتدينين في العقود الأولى من التأسيس، خصوصا أن جيل المؤسّسين غلب عليه الطابع العلماني، وأكثر هؤلاء كانوا ينتمون إلى اليسار تحديدا. وقد امتد هذا الصراع ليشمل الجيش الإسرائيلي أيضا؛ حيث يتهم كلُّ فريق الآخر بالتأثير السلبي في الجيش، وإن كانت الرؤية التي يقدّمها اليسار أكثر رواجا بحكم السيطرة على وسائل الإعلام، والوجود الكبير في مراكز الدراسات. وخلال العقود الأخيرة، ساد في الأوساط العربية اعتقاد بتنامي أعداد المتدينين وتعاظم تأثيرهم في الجيش الإسرائيلي، وهذه الرؤية هي نفسها رؤية اليسار الإسرائيلي التي نفذت إلى كثير من وسائل الإعلام العربية، وهي رؤية تحتاج كثيرا من المراجعة.
ثمّة رؤيتان متناقضتان عن حجم تأثير المتدينين في الجيش، الأكثر رواجا التي تقول بتعاظم دورهم وكيف أضرّ بالجيش؛ من ذلك ما يقوله رؤوبين جل (ضابط كبير سابق) "إن لتعزيز التأثير الديني في الجيش الإسرائيلي عواقب سلبية على الجوانب الثقافية والوظيفية في الجيش، بل وربما أيضا على التوجيهات العملياتية"، ويرى الباحث في الدراسات العسكرية، زئيف دروري، أن الجيش الإسرائيلي تغير بشكل جوهري وتضرّرت كفاءته المهنية نتيجة "تسلّل الدين في ثقافته التنظيمية".
ويثير الباحث في الدراسات العسكرية تامير ليبل أمرا أكثر خطورة؛ إذ يرى أن التأثير المتزايد للدين في الجيش أدّى إلى إهمال القيادات الصغيرة والمتوسّطة التدريب المهني، والانخراط بشكل متزايد في خطط تركّز على قيم ترسيخ الهوية العرقية اليهودية، "ونتيجة لذلك، لم يكن الجيش قادرا على إصدار خطط مستندة إلى المفاهيم العملياتية المعقّدة التي تتطلب معرفة مهنية ومهارات عالية، وفضّل بدلا من ذلك الاعتماد على الأسلحة المحترفة نسبيا، كأسلحة الاستخبارات والجو والبحر، حتى يتجنب الاشتباكات الأرضية الكبيرة". ويعتقد ليبل أن فشل الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية يعود إلى التأثير المتزايد للدين. أما ياجيل ليفي (أستاذ الاجتماع السياسي في الجامعة المفتوحة في إسرائيل) فيرى في كتابه "القائد الإلهي؛ نحو تديين الجيش الإسرائيلي" أن ثمّة مشكلة تتعلق بأخلاقيات الجنود المتدينين؛ فهم لا يكترثون بإيقاع قتلى مدنيين في أثناء المعارك، بسبب الموقف المتساهل للحاخامات بهذا الشأن. ولذلك، أعداد القتلى من المدنيين في غزة في أثناء عملية الرصاص المصبوب كانت كبيرة، وأكبر المسؤولين عن ذلك هم الحاخامات ومن يقدّمون العظات الدينية في الجيش.
هناك اتهامات أخرى تحمّل تنامي ظاهرة التديّن في الجيش مسؤولية التسبب بنتائج كارثية على أدائه، ووضع المرأة، وحرية الجنود العلمانيين في موقفهم من الدين؛ حيث يخضع تثقيف الضباط لسيطرة الحاخامات العاملين في الحاخامية العسكرية، ولأجندةٍ دينيةٍ، بل وأحيانا أجندة مسيحانية أخروية.
أغلب المذابح والأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي عبر تاريخه ضد مدنيين ارتكبها علمانيون تعلموا في مؤسّسات مدنية
وفي السياق نفسه، تطاول انتقادات كبيرة الحاخامية العسكرية، تقول إن نشاطها في العقود الأولى لقيام الدولة كان يقتصر على الخدمات المتعلقة بالطعام الكاشير وأحكام السبت ... وما إلى ذلك، لكنها وسّعت نشاطها في العقدين الأخيرين ليشمل نشاطا تعليميا، وصل إلى ذروته بإقامة فرع لنشر الوعي باليهودية للقيام بهذه المهمة في الجيش، إضافة إلى حضورهم المتزايد، حتى إنهم يعتبرون جزءا من فريق القيادة العليا الذي يضم قائد الوحدة ونائبه والحاخام.
ويهاجم العلمانيون ما تُعرف بحملات الصحوة في الجيش، وهي حملاتٌ سنوية لحثّ الجنود على التوبة تنظمها الحاخامية العسكرية في سبتمبر/ أيلول، وتستهدف بها الجنود كافة، بمن فيهم العلمانيون، غير أن إقرار هذه الجولات حدث حينما جمع بن غوريون بين رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع إرضاءً للمتدينين. وبالتالي، فلا يمكن القول إنها دليل على تعاظم تأثير المتدينين في الجيش في العقود الأخيرة. ويمتد هجوم العلمانيين إلى الممارسات ذات الطبيعة الدينية نفسها؛ ويطالبون بالتقليل من الممارسات التي يبالَغ في البعد الديني لها؛ كالجنائز مثلا، فالجيش ليس هيئة لتطبيق الشريعة، أما الممارسات التي ليس لها محتوى ديني حقيقي؛ كاستخدام التوراة، وإيقاد شموع عيد الحانوكاه، فلا مشكلة فيها إذا عهد بها للقادة، وليس للحاخامات، فالتوراة ليست للمتديّنين وحدهم.
وعلى العكس من ذلك تماما، يرى اليمين الديني أن تأثير العلمانيين عامة، واليساريين تحديدا، هو الذي يزداد ويؤدّي إلى الإضرار بحرفية الجيش، وقمع المتدينين وسيطرة أجندة علمانية على الجيش، ويزعم كذلك أن تثقيف الضباط يخضع لمؤسسات علمانية يسارية، وليس للحاخامات كما يزعم منتقدو المتدينين.
يذهب الباحث داني ستاتمان، في دراسة صادرة عن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بعنوان "المدنية والدين والمتدينين في الجيش الإسرائيلي"، إلى اعتبار أن المشكلة لا تكمن في نسب المتدينين في الجيش ولا في زيادة أعدادهم، بل في ما ينبني على ذلك من نتائج؛ كالتأثير في المهام، وتنفيذ عمليات قد تخالف أيديولوجياتهم، واحتمالية أن يكون ولاؤهم أكبر لحاخاماتهم، والتأثير على وضع المرأة في الجيش، وفرض قيم معينة على الجنود العلمانيين، وتغير قيم الحرب في الجيش إلى الأسوأ، وإن كانت أوضاعهم في الجيش أفضل من العلمانيين، فهذه الأسئلة هي التي يجب أن تقلق أكثر.
ممارسة الجيش أمورا كثيرة ذات طابع ديني تتماشى مع اعتبار دولة الاحتلال يهودية؛ خصوصا ما يتعلق بأحكام السبت، والدفن
والحقيقة أنه لا توجد دراسات يمكن أن تؤسّس عليها معلومات دقيقة في الموضوع؛ فالجيش الإسرائيلي لا يتيح لجهاتٍ من خارجه عمل أبحاث أو استطلاعات خاصة في الموضوعات محل الاختلاف، وعادة ما يرفض السماح بمثل هذه الأبحاث. ولذلك، فإن أغلب ما يظهر من نتائج في هذا الصدد يعتمد على حكايات وانطباعات. من ذلك إشارة بعض التقديرات إلى زيادة نسبة المتدينين في بعض الأسلحة عن نسبتهم إلى الشعب؛ كسلاح المشاة في لواءي جولاني وجفعاتي، وسلاح المظليين، وسلاح ناحل (الشباب الطليعي المحارب)، وفي فرقة كفير المتخصّصة في المعارك الصغيرة ومحاربة الإرهاب، وفي لواء الكوماندوز، وإن كانت نسبتهم أقلّ في أغلب أسلحة الجيش الأخرى؛ كسلاح الجو، والبحرية، والشرطة العسكرية.
تخوّف بعضهم في إسرائيل من تدرّج المتدينين في سلم القيادة ووصولهم إلى قمة الهرم في الجيش؛ وتمكّنهم حينها من فرض قيمهم الدينية على قطاع واسع فيه في غير موضعه، طبقا لستاتمان وعسكريين سابقين، كيائير نافيه، ويانون ماجيل، وهم يؤكّدون أن العسكريين المتدينين كلما تدرّجوا في سلم القيادة يتنازلون عن التديّن ليتمكّنوا من أداء مهامهم القيادية، وأن القادة من الضباط المتدينين مؤتمنون على مهامهم. وأن القلق السائد بشأن قضية انصياع المجنّدين لقادتهم أم للحاخامات غير مبرّر أيضا، وإن وجد، فهو هامشي للغاية، ويستدلّون على ذلك بتفكيك مستوطنات قطاع غزة عام 2005.
ربما يكون وجود المتدينين في الجيش الإسرائيلي كبيرا، لكن الجيش، في النهاية، يخضع لنظام الدولة الذي وضعه اليسار عند التأسيس. وبالتالي، ليس تأثير المتديّنين بالدرجة التي يمكن أن تقلب موازين الجيش لصالحهم، بل يمكن القول إنه يستوعب المتدينين، ويسمح لهم بهامش من الحركة لا يتخطّونه، يخص بعض الأحكام الشرعية، من دون أن يكون لهذا الهامش تأثير في هوية الجيش أو في نظامه وبنيته. وقد كشفت أزمة تعديل قوانين النظام القضائي أخيرا أن المتدينين، وإن كانت أعدادهم كبيرة على المستوى الشعبي، إلا أن تأثيرهم في مؤسّسات الدولة نفسها يكاد يكون منعدما، وهذه المعادلة لا ترضي، بالطبع، جمهور المتدينين، وأغلب الظن أنهم سيسعون إلى تغييرها مستقبلا.
ربما يكون وجود المتدينين في الجيش الإسرائيلي كبيراً، لكن الجيش، في النهاية، يخضع لنظام الدولة الذي وضعه اليسار عند التأسيس
ومن المهم أن ننبّه هنا إلى أن ممارسة الجيش أمورا كثيرة ذات طابع ديني تتماشى مع اعتبار دولة الاحتلال يهودية؛ خصوصا ما يتعلق بأحكام السبت، والدفن ... وغيرها، كذلك، فإن فرض الجيش طعام الكاشير يتماشى مع تفضيل 75% تقريبا من اليهود الإسرائيليين (علمانيين أو متدينين)، ويتماشى أيضا مع اعتباراتٍ اقتصادية وتنظيمية. ومن هنا، لا ينبغي أن ننظر إلى مثل هذه الأمور تعاظما لسيطرة الدين في الجيش.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن اتهامات كثيرة موجهة إلى العسكريين المتدينين انطباعية، ولا تستند إلى معلومات مؤكّدة، بل إنها، على العكس، أكثر انطباقا على العسكريين العلمانيين؛ فأغلب المذابح والأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي عبر تاريخه ضد مدنيين ارتكبها علمانيون تعلموا في مؤسّسات مدنية؛ بداية من مذابح حرب 1948 في كفر قاسم، وفي مطلع الخمسينيات في قرية قبية، وقتل الأسرى في حرب 1967، ومذبحة صبرا وشاتيلا، وقصف بيروت في حرب لبنان الأولى، وتكسير الأيدي والأرجل في الانتفاضة الأولى... وعشرات غيرها، من دون أن يبرّئ ذلك المتدينين منهم، الذين لا يقلون وحشية بالطبع.
نحن أمام روايتين متناقضتين إذا؛ تبالغ إحداهما في تأثير الدين، وتفاقم خطر المتدينين على الجيش، والأخرى تتحدّث عن تحكّم العلمانيين، وصعوبة أوضاع المتدينين فيه. والحقيقة أن الرواية العربية في هذا الموضوع كانت متأثرة أكثر بالرواية العلمانية، فكان أغلب من كتبوا عنها ينقلون عن مصادر إسرائيلية علمانية، أكثرها يساريّ التوجّه، تبالغ في حجم تأثير المتدينين داخل الجيش ... ولعل أزمة القوانين أخيرا قد كشفت أن ثمّة فارقا كبيرا بين زيادة أعداد المتدينين في الدولة، أو في مؤسّساتها، وقدرة هذه الأعداد على التأثير القوي في هذه المؤسسات.