صراع الطاقة يعيد تسخين مياه شرقي المتوسط

11 أكتوبر 2022
+ الخط -

وقّعت تركيا للتو سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية الأوّلية مع الحكومة الليبية، تشمل تنقيباً مشتركاً محتملاً عن الطاقة في المنطقة الاقتصادية الخاصة التي حدّدتها أنقرة وطرابلس بموجب اتفاق بينهما قبل ثلاث سنوات. إذا كان من نتيجةٍ فوريةٍ يُمكن استخلاصها من هذه الاتفاقيات فهي أن التهدئة الإقليمية السائدة منذ نحو عامين في شرق المتوسط شارفت على نهايتها، إن لم تكن انتهت بالفعل. فمن جانبٍ، عادت أنقرة إلى تفعيل نهج الاندفاعة في شرق المتوسط عبر اتخاذ خطواتٍ جديدةٍ مع طرابلس، تستفزّ فاعلين إقليميين آخرين في صراع الطاقة، هما مصر واليونان. ومن جانب آخر، تشهد العلاقات التركية اليونانية تدهوراً حادّاً على خلفية النزاع بينهما بشأن تسليح جزر بحر إيجه. وفي المقابل، يؤدّي الاهتمام المتزايد لواشنطن بتعزيز حضورها في شرق المتوسط من خلال تعزيز التعاون العسكري مع اليونان، ورغبتها في التحوّل إلى مورّد رئيسي للأسلحة إلى قبرص الجنوبية، بعد رفع حظر الأسلحة المفروض عليها منذ عقود إلى تحويل المنطقة إلى ساحة للمنافسة الجديدة مع تركيا وروسيا. في الواقع، تدفع هذه التطوّرات بين الأطراف المؤثرة في شرق المتوسط إلى تبديد الآمال الضعيفة بتحويل هذه المنطقة إلى مساحة للتعاون الواسع بين دول الحوض في مجال التنقيب عن الغاز واستخراجه. 
في حين أن الأهمية الإقليمية لمنطقة شرقي المتوسط برزت بشكل أكبر في السنوات الأخيرة بعد اكتشاف احتياطاتٍ كبيرةٍ شبه مؤكّدة للموارد الهيدروكربونية، إلّا أنّ التحوّلات التي طرأت على نظام الطاقة العالمي بعد الحرب الروسية الأوكرانية رفعت من الأهمية الجيوسياسية للمنطقة في نظام الطاقة العالمي الجديد الذي بدأ بالتشكّل. حقيقة أنّ الخيارات التي لجأت إليها أوروبا لمواجهة الخفض الكبير في إمدادات الغاز من روسيا وتزايد احتمال توقفها بشكل شبه كامل في المستقبل القريب بسبب احتدام الصراع الروسي الغربي، جعلت الاستجابة الأوروبية ظرفيةً وعالية التكاليف، وغير كافية أيضاً. تُساهم خطط الطوارئ التي وضعتها الدول الأوروبية لتقليص استهلاك الطاقة هذا الشتاء، وتحولها نحو شحنات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة ومورّدين آخرين في تخفيف تداعيات أزمة الطاقة لديها، لكنّها تُبرز الحاجة إلى إيجاد إمدادات مستقبلية أكثر استقراراً وأقل تكلفةً. بالنظر إلى القرب الجغرافي لمنطقة شرق المتوسط من أوروبا، تنظر الأخيرة إليها كأحد البدائل الاستراتيجية على المدى البعيد للحصول على الغاز بعيداً عن روسيا. يُطلق سباق أوروبا مع الزمن لفطم نفسها عن الغاز الروسي، الذي يستخدمه الرئيس فلاديمير بوتين سلاحا ضد الغرب، لدفعه إلى التراجع في أوكرانيا، إلى إعادة تحريك المياه الراكدة في شرق المتوسط.

إمكانية قيام تعاون بين تركيا وإسرائيل في مجال الطاقة غير مؤكّدة، بفعل العوامل الإقليمية المحيطة بالعلاقة الجديدة الناشئة بين البلدين

عرضت الولايات المتحدة على لبنان وإسرائيل، أخيراً، مسوّدة اتفاق لترسيم الحدود البحرية بينهما، تُتيح لهما بدء الاستفادة من احتياطات الغاز الموجودة في المنطقة البحرية المتنازع عليها تمهيداً لبدء التصدير إلى أوروبا. سبق أن شرعت تركيا وإسرائيل في البحث عن إمكانية التعاون في مجال الطاقة بعد إعادة إصلاح علاقاتهما وتخلّي الولايات المتحدة عن دعم مشروع ميد إيست لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا بمعزل عن تركيا. بينما تُحفّز تحوّلات الطاقة بعض دول حوض المتوسط، كتركيا وإسرائيل ولبنان، لاستكشاف سبل التعاون المباشر وغير المباشر في مجال الطاقة، فإنّ الاضطرابات الجيوسياسية، التي لا تزال تعصف بالمنطقة، تحول في المستقبل المنظور دون إمكانية إنشاء مشاريع واسعة للتعاون في مجال الطاقة، وبالتالي، زيادة التحدّيات التي تواجه أوروبا للحصول على إمداداتٍ بديلة مستقرّة للطاقة. فمن ناحية، لا يزال الاتفاق اللبناني الإسرائيلي المحتمل، عُرضةً للانهيار بفعل مخاطر اندلاع صراع جديد بين إسرائيل وحزب الله واحتمال حدوث تحوّل سياسي إسرائيلي بعد الانتخابات المبكّرة المقبلة. عارض زعيم المعارضة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أيّ اتفاق مع لبنان، وتوعّد بالانسحاب منه في حال وصوله إلى السلطة، وهو خيار غير مستبعد.
ومن ناحية أخرى، لا تزال إمكانية قيام تعاون بين تركيا وإسرائيل في مجال الطاقة غير مؤكّدة، بفعل العوامل الإقليمية المحيطة بالعلاقة الجديدة الناشئة بين البلدين. نجحت أنقرة خلال العامين الماضيين بفكّ عزلتها في معادلة الصراع شرقي المتوسط عبر إصلاح العلاقات مع إسرائيل والدخول في حوار مع القاهرة، من أجل إعادة العلاقات. لكنّ عودة الاضطرابات بين تركيا وكل من مصر واليونان بسبب الخلافات البحرية والموقف في ليبيا، قد يُحبِط عزيمة تل أبيب في التعاون مع أنقرة في مجال الطاقة. لا تزال إسرائيل تولي أهميتها لتحالفاتها مع اليونان وقبرص الجنوبية وعلاقتها الجيدة مع مصر، لكنّ مساعيها إلى الموازنة بين هذه العلاقات والشراكة الجديدة الناشئة مع تركيا تصطدم بعودة اضطراب الوضع الجيوسياسي شرقي المتوسط. 

يُهدّد تعميق تركيا للشراكة مع حكومة طرابلس بالفعل بإفساد الأجواء الإيجابية التي طرأت على العلاقات التركية المصرية في العامين الأخيرين

يُهدّد تعميق تركيا للشراكة مع حكومة طرابلس بالفعل بإفساد الأجواء الإيجابية التي طرأت على العلاقات التركية المصرية في العامين الأخيرين. في حين أن القاهرة لا تبدو متضرّرة مثل اليونان من الاتفاقات التركية الليبية الجديدة، فإن قلقها من تصاعد النفوذ التركي في ليبيا لا يزال يُشكّل مُحدّداً رئيسياً في مقاربتها مساعي إصلاح العلاقات مع أنقرة. كان الدافع الرئيسي لتحوّل تركيا إلى بناء علاقاتٍ متوازنةٍ بين شرقي ليبيا وغربيها هو الاستجابة للتحوّلات التي أحدثتها في علاقاتها مع مصر، لكنّ ميلها المتزايد نحو دعم حكومة عبد الحميد الدبيبة على حكومة حساب فتحي باشاغا الذي تدعمه القاهرة، يخاطر بانهيار مساعي إصلاح العلاقات. يبدو الاتجاه التركي نحو حكومة الدبيبة، في جانب منه، ردّاً على التردّد المصري في الإقدام على خطواتٍ إضافية مع أنقرة لإنهاء القطيعة. وفي جانب آخر، ردّاً على اضطراب العلاقات مع اليونان. لذلك، تنبغي قراءة الاتفاقات التركية الليبية الجديدة من منظورين رئيسيين: الأول مُرتبط بالتوازنات الجيوسياسية شرقي البحر المتوسط، والثاني يتعلق بالموقف التركي من الصراع على السلطة في ليبيا والعلاقة مع مصر.
أخيراً، على عكس الآمال التي علّقها الأوروبيون على التهدئة الإقليمية السابقة بين دول حوض البحر المتوسط للاستفادة من احتياطات الغاز المحتملة، فإنّ تصاعد التوترات التركية اليونانية والخلافات المصرية التركية بشأن ليبيا والدور الأميركي الذي يُساهم في تغذية الخلافات بين بعض دول الحوض، يؤدّي إلى احتدام التنافس على ثروات شرقي المتوسط. يُشكل ذلك خبراً سارّاً لروسيا التي ستسعى إلى تعزيز بصمتها شرقي المتوسط واللعب على التناقضات التركية الأميركية لإفساد أي مشاريع للتعاون في مجال الطاقة بين دول الحوض.